الثلاثاء، 31 ديسمبر 2019

منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في التكفير تأصيلاً وتنزيلاً


منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في التكفير
وفيه تقريره للعذر بالجهل والتأويل في الشرك الأكبر
والتفريق بين النوع والعين
والبراءة من منهج الخوارج والمعتزلة



أسماء وأحكام من ينطق بالشهادتين

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة؛ وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر؛ لا بمجرد الأدلة العقلية.) مجموع الفتاوى 3/328

وقال: (فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل. فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما... -إلى أن قال:- فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع.) منهاج السنة 5/93


فمن ينطق بالشهادتين له اسمين:

اما [ مسلم مؤمن ] حكماً
او [ مرتد كافر مشرك ] خالد مخلد في النار وليس هناك مرتد يمتحن يوم القيامة.

قال تعالى : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. (البقرة 217)

قال تعالى : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (النساء 115).

قال شيخ الاسلام ابن تيمية في بيان أن ثبوت اسم الردة والكفر على من (ينطق بالشهادتين) كثبوت الوعيد في الاخرة بحقه:

(لا يلزم إذا كان القول كفراً، أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه) اهـ منهاج السنة 5/240

قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) صحيح البخاري

قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) صحيح البخاري

الشهادتين والصلاة وباقي اركان الإسلام والإيمان (توحـيد وإيمان)

قال الإمام ابن بطة: (وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل به المرسلين، وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: إن الصلاة ليست من الإيمان والله عز وجل يقول: {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين}.)  الإبانة الكبرى 2/792

والتوحيد يجتمع مع الشرك والكفر اذا وجد مانع من الموانع الشرعية كالإكراه والجهل والتأويل والخطأ

قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض المسلمين الواقعين بالشرك الأكبر جهلاً:
(يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه) مجموع الفتاوى 35 / 164 - 166


وقال: (وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى (12/ 500)

وقال: (فغالب الناس إسلامهم حكمي ... إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة كما هو الواقع في كثير من الناس) مجموع الفتاوى ج 26/ ص 32

فمن دخل في الاسلام الحكمي بنطقه بالشهادتين فلا يخرج عنه ويسمى مرتدا الا بعد اقامة الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع.

قال الإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني: (ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر، لأنه لم يقصد اختيار الكفر ولا رضي به وقد بلغ جهده فلم يقع له غير ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداه} فكل من هداه الله عز وجل ودخل في عقد الإسلام فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان". الحجة في بيان المحجة (2/511)


قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن القبوريين في زمانه:

(بل كل من كان من المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة والمتفلسفة ومن وافقهم من الملوك والأغنياء؛ والكتاب؛ والحساب؛ والأطباء؛ وأهل الديوان والعامة: خارجا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله؛ ولا يحرم ما حرمه الله ورسوله؛ أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث الله به رسوله باطنا وظاهرا: مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه؛ أو ينصره أو يهديه؛ أو يغيثه؛ أو يعينه؛ أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له؛ أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلا مطلقا؛ أو مقيدا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى؛ أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك؛ ومنافقون إن لم يظهروه.

وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان فلقلة دعاة العلم والإيمان وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات: يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف: {يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة إلا الشيخ الكبير؛ والعجوز الكبيرة. ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار}. وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولا يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن "الإيمان" من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله؛ ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام؛ أو لنشوئه في بادية بعيدة أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا. والله أعلم.) مجموع الفتاوى 35 / 164 - 166

تأمل انه اثبت الايمان والاسلام للقبوريين الواقعين في الشرك الأكبر لجهلهم كما في النص السابق.

وقال: (وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى (12/ 500)

وقال: (لا يلزم إذا كان القول كفراً، أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه) اهـ منهاج السنة 5/240

بالجمع بين النصوص الثلاث السابقة يسقط منهج الخوارج

ففي النص الأول اثبت الاسلام والايمان لعباد القبور الجهال.

وفي النص الثاني اشترط لتكفير المسلم اقامة الحجة وازالة الشبهة.

وفي النص الثالث بين ان ثبوت الردة كثبوت العقوبة والوعيد في الاخرة.

وقال دفاعا عن القبوري أبوحامد الغزالي الذي مات ولم يتبرأ من كتبه الشركية واعتباره من علماء المسلمين.

تقريرا لإجماع السلف المقدمين والمتأخرين على العذر بالجهل والتأويل في الشرك الأكبر وللتفريق بين النوع والعين:

(وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب؛ بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد.) مجموع الفتاوى 35/103

وقال : (فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه) اهـ الاستغاثة والرد على البكري 411


وقال: (وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر، ومنهم من يسجد له، ومنهم من يسجد من باب المكان المبني على القبر، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس، فيسجدون لهذا الميت ولا يسجدون للخالق، وقد يكون ذلك الميت ممن يظن به الخير، وليس كذلك، كما يوجد مثل هذا في مصر، والشام، والعراق، وغير ذلك.

ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله، فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني، ونحو ذلك كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك من عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنها من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يعذرون بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر من لم يبعث إليه رسول، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين، قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وفي الحديث: «إِنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ».) كتاب قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 70)

وقال رحمه الله في بيان حال الرافضة في زمانه وانهم واقعون في الشرك الأكبر: (ويشبهون النصارى في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة وفي الشرك وغير ذلك) وقال: (وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه. فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التي اتخذت أوثانا من دون الله. وهذا باب يطول وصفه. وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به.) مجموع الفتاوى 28 /480-485

ثم بين انهم مسلمون وخير من الكفار الاصليين فقال: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمينمن الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير.) مجموع الفتاوى (13/ 96)


وعندما سئل رحمه الله عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة؟
أجاب:
(الحمد لله، كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير من كل من كفر به؛ وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفار كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام. والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافرا به؛ ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم.) مجموع الفتاوى (35/ 201)

وقال: (وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهموالصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع؛ لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعهفإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له. وقد بسطت هذه القاعدة في "قاعدة التكفير". ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ دون غيره. والله أعلم) مجموع الفتاوى 28/ 501


وسئل عمن يسأل اهل القبور قضاء الحاجات وتفريج الكربات فأجاب:
(هذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينته، وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه. وإما إذا كان جاهلا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولاسيما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة فإنه ضال باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر.) جامع المسائل 3/ 145-151

وقال عن الحلولية وهم اشد واعظم الناس شركاً:
(ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم، أن لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.) الرد على البكري 253

وقال: (أن القول قد يكون كفرا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة؛ ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر فيطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف من قال: القرآن مخلوق فهو كافر ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة) مجموع الفتاوى (7/619)

وقال: (أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية كما أنكر شريح قراءة من قرأ {بل عجبت ويسخرون} وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ {بل عجبت}. وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد ربه وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها: إنه مفتر على الله. وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي وفي تعذيب الميت ببكاء أهله وغير ذلك. وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال. مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعا مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأن المقاتل وإن كان باغيا فهو متأول والتأويل يمنع الفسوق. وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين. وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة "الوعيد " فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا فله كذا. فإن هذه مطلقة عامة. وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا: فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه: بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة.
والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "{إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت. قال خشيتك: فغفر له}". فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا.) مجموع الفتاوى (3/ 229 - 231)

وقال: (أن التكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه. وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه. ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك ويكون في الآخرة غير معذب مثل قتال البغاة والمتأولين مع بقائهم على العدالة ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك وعلى الغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له} " ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولا مع العلم بأنه باق على العدالة. بخلاف من لا تأويل له فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وكذلك نعلم أن خلقا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم. ومثل المنافقين المظهرين الإسلام فإنهم تجري عليهم أحكام الإسلام وهم في الآخرة كافرون كما دل عليه القرآن في آيات متعددة كقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} الآية. وقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} الآية. وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب. وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان كما قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} وقال تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} وهذا لأن المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} . وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس. ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي إلى البدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده في الدين سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر. وإذا عرف هذا فتكفير " المعين " من هؤلاء الجهال وأمثالهم - بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار - لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع " المعينين " مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى 12/ 498-501

وقال: (أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه وقد يتوب من فعل المحرم وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يشفع فيه شفيع مطاع.
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وجماهير أئمة الإسلام وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها. فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم وهو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال الأصول: هي المسائل القطعية قيل لا: كثير من مسائل العمل قطعية وكثير من مسائل العلم ليست قطعية وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه. وعند رجل لا تكون ظنية فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه أو لعدم ثبوته عنده أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: " {إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له} فهذا شك في قدرة الله. وفي المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك وغفر الله له. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع.
ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك ولم يفهموا غور قولهم فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقا حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي وربما رجحت التكفير والتخليد في النار وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة: ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة. لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم. حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وغير ذلك. ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لمن يبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بين له أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم. وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعي وأحمد في القدري: إن جحد علم الله كفر ولفظ بعضهم ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا. وسئل أحمد عن القدري: هل يكفر؟ فقال: إن جحد العلم كفر وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية. وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس كما يقتل المحارب. وإن لم يكن في نفس الأمر كفرا فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيها.) مجموع الفتاوى (23 / 345 - 350)
وقال: (وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى (12/ 500)

وقال: (التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية فتارة يدرك بيقين وتارة يدرك بظن غالب وتارة يتردد فيه ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل) بغية المرتاد ص 345 ط مكتبة العلوم والحكم

الاثنين، 4 نوفمبر 2019

رد شيخ الإسلام ابن تيمية على من يقسم الدين الى اصول لا يعذر فيها وفروع يعذر فيها وبيان أن هذا من اقوال المعتزلة وأهل البدع


بسم الله الرحمن الرحيم


قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

(أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه وقد يتوب من فعل المحرم وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يشفع فيه شفيع مطاع.
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلاموما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها. فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم وهو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال الأصول: هي المسائل القطعية قيل لا: كثير من مسائل العمل قطعية وكثير من مسائل العلم ليست قطعية وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه. وعند رجل لا تكون ظنية فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه أو لعدم ثبوته عنده أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: " {إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له} فهذا شك في قدرة الله. وفي المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك وغفر الله له. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع.
ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك ولم يفهموا غور قولهم فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقا حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي وربما رجحت التكفير والتخليد في النار وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة: ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة. لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم. حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وغير ذلك. ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لمن يبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بين له أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم. وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعي وأحمد في القدري: إن جحد علم الله كفر ولفظ بعضهم ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا. وسئل أحمد عن القدري: هل يكفر؟ فقال: إن جحد العلم كفر وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية. وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس كما يقتل المحارب. وإن لم يكن في نفس الأمر كفرا فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيها.) مجموع الفتاوى (23 / 345 - 350)

وقال رحمه الله: (بل جعل الدين قسمين أصولا وفروعا لم يكن معروفا فى الصحابة والتابعين ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه فى طلب الحق يأثم لا فى الأصول ولا فى الفروع ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة وأدخله فى أصول الفقه من نقل ذلك عنهم وحكوا عن عبيد الله بن الحسن العنبرى انه قال كل مجتهد مصيب ومراده انه لا يأثم وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما) مجموع الفتاوى
 (ج 13 / ص 125)

وقال رحمه الله: (وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة عملية ولا علمية. قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره قالوا والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة فهي باطلة عقلا فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة) منهاج السنة النبوية (ج 5 / ص 88)




الأربعاء، 30 أكتوبر 2019

مفهوم الردة بين تقرير السلف وجناية الخلف



بسم الله الرحمن الرحيم

إن مِن البلايا التي عمّت في هذا الزمان، ومِن الفِتن التي ظهرت، كلامُ من هبّ ودبّ في دين الله عز وجل، قال في جامع بيان العلم وفضله: 2410 - ﺃﺧﺒﺮﻧﺎ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﺑﺸﺮ، ﺛﻨﺎ اﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺩﻟﻴﻢ، ﺛﻨﺎ اﺑﻦ ﻭﺿﺎﺡ، ﺛﻨﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ اﻟﺼﺪﻓﻲ، ﻗﺎﻝ ﺃﻧﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻭﻫﺐ، ﻗﺎﻝ: ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻣﺎﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺭﺟﻞ ﺃﻧﻪ ﺩﺧﻞ ﻋﻠﻰ ﺭﺑﻴﻌﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﻓﻮﺟﺪﻩ ﻳﺒﻜﻲ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﻣﺎ ﻳﺒﻜﻴﻚ؟ ﻭاﺭﺗﺎﻉ ﻟﺒﻜﺎﺋﻪ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﺃﻣﺼﻴﺒﺔ ﺩﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻚ؟ ﻓﻘﺎﻝ: ﻻ، ﻭﻟﻜﻦ اﺳﺘﻔﺘﻲ ﻣﻦ ﻻ ﻋﻠﻢ ﻟﻪ ﻭﻇﻬﺮ ﻓﻲ اﻹﺳﻼﻡ ﺃﻣﺮ ﻋﻈﻴﻢ، ﻗﺎﻝ ﺭﺑﻴﻌﺔ: ﻭﻟﺒﻌﺾ ﻣﻦ ﻳﻔﺘﻲ ﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﺃﺣﻖ ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ ﻣﻦ اﻟﺴﺮاﻕ.

وإن مِن أمارات الشر في هذا الزمان اتخاذ الجهلة رؤوسا في العلم، أخرج البخاري في باب "كيف يقبض العلم" قال: 100 - ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺃﻭﻳﺲ، ﻗﺎﻝ ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻣﺎﻟﻚ، ﻋﻦ ﻫﺸﺎﻡ ﺑﻦ ﻋﺮﻭﺓ، ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ، ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ اﻟﻌﺎﺹ ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻳﻘﻮﻝ: «ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻘﺒﺾ اﻟﻌﻠﻢ اﻧﺘﺰاﻋﺎ ﻳﻨﺘﺰﻋﻪ ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺎﺩ، ﻭﻟﻜﻦ ﻳﻘﺒﺾ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﻘﺒﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﻋﺎﻟﻤﺎ اﺗﺨﺬ اﻟﻨﺎﺱ ﺭءﻭﺳﺎ ﺟﻬﺎﻻ، ﻓﺴﺌﻠﻮا ﻓﺄﻓﺘﻮا ﺑﻐﻴﺮ ﻋﻠﻢ، ﻓﻀﻠﻮا ﻭﺃﺿﻠﻮا» ﻗﺎﻝ اﻟﻔﺮﺑﺮﻱ: ﺣﺪﺛﻨﺎ ﻋﺒﺎﺱ، ﻗﺎﻝ: ﺣﺪﺛﻨﺎ ﻗﺘﻴﺒﺔ، ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺟﺮﻳﺮ، ﻋﻦ ﻫﺸﺎﻡ ﻧﺤﻮﻩ.

قال الطبراني في المعجم الكبير -8591: حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب، ثنا محمد بن كثير، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن زيد بن وهب، عن عبد الله، قال: «لن يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل أكابرهم، وذوي أسلافهم، فإذا أتاهم من قبل أصاغرهم هلكوا» هكذا رواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن زيد بن وهب.

وقال اللالكائيّ في شرح الأصول -103: أخبرنا عبيد الله بن محمد بن أحمد، ثنا أحمد بن محمد بن الصباح الهروي، قال: سمعت أبا حامد قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول في قوله: «لا يزالون بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم» معناه أن الصغير إذا أخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فهو كبير، وإن أخذ بالرأي وترك السنن فهو صغير.

وأدخل في المقصود إن شاء الله، فقد خرج علينا فئام من الناس يزعمون أنهم على منهج السلف، وهم في الحقيقة على منهج الخوارج والمعتزلة.

وذلك لما ذكرنا لهم مخالفتهم للسلف في الطوائف التني تنطق بالشهادتين كالجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم، حيث إن السلف متظافرون على تسميتهم أهل ردة كنوع وليس كأعيان، ولم يَزَل ذلك اسمهم ووصفهم عند السلف حتى انقضت القرون المفضلة، وانتشرت الأقوال المخالفة للسلف أكثر مما كانت عليه في الأصول والفروع، قال أبو حاتم الرازي: (العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لا معارض له، وما جاء عن الألباء من الصحابة ما اتفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم، مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح، ثم ما لم يوجد عن أمثالهم فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن آدم وابن عيينة ووكيع بن الجراح، ومن بعدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون والحميدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي وأبي عبيد القاسم بن سلام.) إعلام الموقعين (2/175)

وهذا أصل عظيم ينبني على تقريره هذه المسألة، فإن تناسل هؤلاء الطوائف لم يحدث إلا بعد عصر الصحابة، وبطبيعة الحال فأول جيل سيكون في عصر التابعين، فوجب المصير إلى ما قرره التابعون وأتباعهم.

وإن أقوال السلف مشتهرة في الحكم بردة هذه الطوائف كنوع وليس كأعيان، ننقل بعضها هنا إن شاء الله.

قال طلحة بن مصرف - رحمه الله - (من التابعين): (الرافضة لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم أهل ردة.) الشرح والإبانة لابن بطة.

قال اللالكائيّ في شرح الأصول 2817 - ﻧﺎ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﻴﻤﻮﻥ اﻟﻨﻬﺮﺳﺎﺑﺴﻲ، ﻗﺎﻝ: ﻧﺎ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﻮﺳﻰ اﻟﺨﻄﻴﺐ، ﻗﺎﻝ: ﻧﺎ ﺃﺑﻮ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ...، ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﺖ اﻟﺪﻭﺭﻱ ﻳﻘﻮﻝ: ﺳﻤﻌﺖ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻳﻮﻧﺲ ﻳﻘﻮﻝ: (ﺇﻧﺎ ﻻ ﻧﺄﻛﻞ ﺫﺑﻴﺤﺔ ﺭﺟﻞ ﺭاﻓﻀﻲ، ﻓﺈﻧﻪ ﻋﻨﺪﻱ ﻣﺮﺗﺪ.)

وأحمد بن يونس رحمه الله من أتباع التابعين، أي بعد خروج الرافضة الذين حرقهم علي بنحو جيلين.

قال عبدالله في السنة 38 - ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﻭﺫﻛﺮ ﺣﺴﻦ ﺑﻦ اﻟﺒﺰاﺭ ﻗﺎﻝ: ﻭﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻋﻤﺮﻭ، ﻗﺎﻝ: ﻗﻴﻞ ﻟﻮﻛﻴﻊ ﻓﻲ ﺫﺑﺎﺋﺢ اﻟﺠﻬﻤﻴﺔ، ﻗﺎﻝ: «ﻻ ﺗﺆﻛﻞ ﻫﻢ ﻣﺮﺗﺪﻭﻥ»

وقال في الإبانة الكبرى: 314 - ﻗﺎﻝ: ﻭﺃﻧﺎ اﻟﻤﺮﻭﺫﻱ، ﻗﺎﻝ: (ﺳﺄﻟﺖ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻋﻦ اﻟﺠﻬﻤﻲ ﻳﻤﻮﺕ ﻭﻟﻪ اﺑﻦ ﻋﻢ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻭاﺭﺙ ﻏﻴﺮﻩ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: «ﻻ ﻳﺮﺙ اﻟﻤﺴﻠﻢ اﻟﻜﺎﻓﺮ». ﻗﻠﺖ: ﻓﻼ ﻳﺮﺛﻪ؟ ﻗﺎﻝ: ﻻ. ﻗﻠﺖ: ﻓﻤﺎ ﻳﺼﻨﻊ ﺑﻤﺎﻟﻪ؟ ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﺖ اﻟﻤﺎﻝ، ﻧﺤﻦ ﻧﺬﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻣﺎﻝ اﻟﻤﺮﺗﺪ ﻟﺒﻴﺖ اﻟﻤﺎﻝ.)

والجهمية المعطلة لصفات الخالق -عز وجل- مشركون واسوء شركا من اليهود والنصارى، وإمامهم الجهم بن صفوان مقتول في سنة (128) هـ ولم يزل أهل العلم بعد جيله يسمون الجهمية بالمرتدين والزنادقة.

وهذا مقال في بيان بعض وجوه أن الجهمية المعطلة للصفات مشركين ↓↓


وهذا مقال اخر في بيان أن كفرهم اشد واظهر من اليهود والنصارى ↓↓


أما ما نقله صاحب المغني عن الإمام أحمد رحمه الله أنه يعتبر أن أبناء المرتدين لهم حكم الكفار الأصليين، فهذا لم يصح، ولا توجد رواية لهذا بالسند عنه رحمه الله، بل الثابت عنه عكس هذا، وليس كل ما زعم رجل منتسب لمذهب أحمد أن هذا قول أحمد في المسألة يُصدَّق في زعمه، وابن قدامة عُرف ببدعة التفويض، فكيف يُقبل نقله هذا ولم يُسنده.

وأكتفي بهذه النقولات ففيها كفاية لطالب الحق إن شاء الله، وتوجد نقولات أخرى عن الإمام أحمد وغيره كتلميذه ابن هانئ، وغيرهما.

وذلك أن المخالف لا يرد هذه الأقوال، بل يثبتها ويتأولها على غير حقيقتها، فكان ردهم لما احتج عليهم بعض الإخوة بهذه الآثار أن قالوا: ذاك زمان السلف، كان التوحيد ظاهرا والأصل أن من كان في دار الإسلام فهو مسلم فإن أتى بناقض فيحكم بردته، وهذا وجه حكم السلف على هذه الطوائف بالردة، أقول مستعينا بالله: هذا القول باطل من عدة أوجه:

1- أن السلف تكلموا في حكم الرافضة والجهمية وغيرهم كطائفة وليس كأعيان، فالكلام عن الطائفة والحكم عليها يتناول أول خروجها حتى وقتهم، وهذا ظاهر بين في قولهم (أهل ردة) أو (مرتدون)، ثم إن الموطن موطن بيان حكم فوجب المصير للتفصيل، ولو كان الأمر كما زعموا لقالوا: وإن نشأ على ذلك فهو كافر أصلي كما وجدنا تفصيلات السلف في أقل من هذا كحكم استتابة المرتد والتفريق بين أن يكون ولد على الإسلام أو انتقل من الكفر إلى الإسلام ثم رجع عنه وغيرها من المسائل.

2- لا شك أنه كان في زمان السلف أهل كتاب يعيشون في دار الإسلام، فهل تقولون بأن اليهودي والنصراني وقتها مرتد لأنك قد تثبت له الإسلام بتبعيته للدار ثم تحكم عليه بالردة بعدما يتبين لك كفره ؟!! هذا ما يقتضيه قياسكم ودينكم الفاسد، وهل الآن في عصرنا هذا إذا حكمنا بإسلام رجل أظهر لنا التوحيد ثم تبين لنا أنه قائم على ناقض من صغره، فهل يكون حكمنا عليه بالكفر الأصلي لأننا كنا قد أثبتنا له الإسلام ؟؟

3- أن السلف رحمهم الله قد تكلموا في أعيان معروفين بزندقتهم لم يدخلوا الإسلام الحقيقي يوما ومع ذلك حكموا بردتهم، وخذ مثالاً على ذلك بشر المريسي.

قال عبدالله في السنة: 57 - ﺣﺪﺛﻨﻲ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻛﺮﻳﻤﺔ اﻟﺤﺮاﻧﻲ، ﻗﺎﻝ ﺳﻤﻌﺖ ﺷﺒﺎﺑﺔ ﺑﻦ ﺳﻮاﺭ، ﻳﻘﻮﻝ: (اﺟﺘﻤﻊ ﺭﺃﻳﻲ ﻭﺭﺃﻱ ﺃﺑﻲ اﻟﻨﻀﺮ ﻫﺎﺷﻢ ﺑﻦ ﻗﺎﺳﻢ ﻭﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻘﻬﺎء ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﻤﺮﻳﺴﻲ ﻛﺎﻓﺮ ﺟﺎﺣﺪ ﻧﺮﻯ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﺘﺎﺏ ﻓﺈﻥ ﺗﺎﺏ ﻭﺇﻻ ﺿُﺮﺑﺖ ﻋﻨﻘﻪ)

قلت: لا عَجَب ! فقد يخرج علينا من يكفر السّلف ويبدعهم لأنهم حكموا بردة المريسي ولم يحكموا بكفره الأصلي، لأنهم قالوا: يُستتاب، فإن الاستتابة لا تكون لكافر أصلي، وبِشر المريسي انتقل من اليهودية إلى التجهم ولم يشمّ رائحة الإسلام الحقيقي بل دخل بالاسلام الحكمي، ومن زعم أنه قد دخل في الإسلام الحقيقي يوما واحدا فهو أحد رجلين:

1- جاهل بحاله
2- أو جاهل بالتوحيد.

ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ اﻟﻨﻀﺮ ﻫﺎﺷﻢ ﺑﻦ اﻟﻘﺎﺳﻢ: (ﻛﺎﻥ ﻭاﻟﺪ ﺑﺸﺮ اﻟﻤﺮﻳﺴﻲ ﻳﻬﻮﺩﻳﺎ ﻗﺼﺎﺑﺎ ﺻﺒﺎﻏﺎ ﻓﻲ ﺳﻮﻳﻘﺔ ﻧﺼﺮ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ.) ميزان الاعتدال (1/322)

ﻭﻗﺎﻝ اﻟﻤﺮﻭﺯﻱ: ﺳﻤﻌﺖ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺫﻛﺮ ﺑﺸﺮا ﻓﻘﺎﻝ: (ﻛﺎﻥ ﺃﺑﻮﻩ ﻳﻬﻮﺩﻳﺎ.) ميزان الاعتدال (1/323)

ﻭﺃﺧﺮﺝ اﻟﺨﻄﻴﺐ ﺑﺴﻨﺪﻩ ﻋﻦ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﺑﻦ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻟﺆﻟﺆ ﻗﺎﻝ: (ﻣﺮﺭﺕ ﻓﻲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻓﺈﺫا ﺑﺸﺮ اﻟﻤﺮﻳﺴﻲ ﻭاﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺠﺘﻤﻌﻮﻥ، ﻓﻤﺮ ﻳﻬﻮﺩﻱ ﻓﺄﻧﺎ ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﻻ ﻳﻔﺴﺪ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻛﺘﺎﺑﻜﻢ ﻛﻤﺎ ﺃﻓﺴﺪ ﺃﺑﻮﻩ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻟﺘﻮﺭاﺓ! ﻳﻌﻨﻲ ﺃﻥ ﺃﺑﺎﻩ ﻛﺎﻥ ﻳﻬﻮﺩﻳﺎ.) تاريخ بغداد (7/61)

فهذا بشر المريسي كان معروفا بكفره حتى عند اليهود فكيف يقال إن كفره وأمثاله كان خفيا في دار الإسلام.

ﺃﺧﺮﺝ اﻟﺨﻄﻴﺐ ﺑﺴﻨﺪﻩ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﻣﺴﻠﻢ ﺻﺎﻟﺢ ﺑﻦ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺻﺎﻟﺢ اﻟﻌﺠﻠﻲ، ﺣﺪﺛﻨﻲ ﺃﺑﻲ ﻗﺎﻝ: (ﺭﺃﻳﺖ ﺑﺸﺮ اﻟﻤﺮﻳﺴﻲ - ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻌﻨﺔ اﻟﻠﻪ - ﻣﺮﺓ ﻭاﺣﺪﺓ ﺷﻴﺨﺎ ﻗﺼﻴﺮا ﺩﻣﻴﻢ اﻟﻤﻨﻈﺮ، ﻭﺳﺦ اﻟﺜﻴﺎﺕ، ﻭاﻓﺮ اﻟﺸﻌﺮ، ﺃﺷﺒﻪ ﺷﻲء ﺑﺎﻟﻴﻬﻮﺩ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﺑﻮﻩ ﻳﻬﻮﺩﻳﺎ ﺻﺒﺎﻏﺎ ﺑﺎﻟﻜﻮﻓﺔ ﻓﻲ ﺳﻮﻕ اﻟﻤﺮاﺿﻊ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻻ ﻳﺮﺣﻤﻪ اﻟﻠﻪ ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﻓﺎﺳﻘﺎ.) تاريخ بغداد (7/61)

وقال عبدالله في السنة 37 - ﺣﺪﺛﻨﻲ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﺑﻦ ﺯﻧﺠﻮﻳﻪ، ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺩاﻭﺩ اﻟﺤﺮاﻧﻲ، ﺳﻤﻌﺖ ﻭﻛﻴﻌﺎ، ﻳﻘﻮﻝ: «اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻛﻼﻡ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺃﻧﺰﻟﻪ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻛﻞ ﺻﺎﺣﺐ ﻫﻮﻯ ﻳﻌﺮﻑ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻭﻳﻌﺮﻑ ﻣﻦ ﻳﻌﺒﺪ ﺇﻻ اﻟﺠﻬﻤﻴﺔ ﻻ ﻳﺪﺭﻭﻥ ﻣﻦ ﻳﻌﺒﺪﻭﻥ. ﺑﺸﺮ اﻟﻤﺮﻳﺴﻲ ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ»

قلت: فهل المريسي الذي لا يعرف من يعبد دخل في الاسلام الحقيقي يوما

4- ثم إنه لا يخفى على أحد نظر في كتب أهل العلم كيف كانت ظهور الزندقة والبدع الكفرية وكان الناس يعلنون بها على المنابر، ويصلون بالناس الجمع والجماعات.

قال البربهاري - رحمه الله - وهو يتكلم عن ظهور البدع الكفرية في زمانه ومن قبل: ﻓﺼﺎﺭﺕ اﻟﺴﻨﺔ ﻭﺃﻫﻠﻬﺎ ﻣﻜﺘﻮﻣﻴﻦ، ﻭﻇﻬﺮﺕ اﻟﺒﺪﻋﺔ ﻭﻓﺸﺖ، ﻭﻛﻔﺮﻭا ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻮﻥ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﻩ ﺷﺘﻰ، ﻭﻭﺿﻌﻮا اﻟﻘﻴﺎﺱ، ﻭﺣﻤﻠﻮا ﻗﺪﺭﺓ اﻟﺮﺏ ﻓﻲ ﺁﻳﺎﺗﻪ ﻭﺃﺣﻜﺎﻣﻪ ﻭﺃﻣﺮﻩ ﻭﻧﻬﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ، ﻓﻤﺎ ﻭاﻓﻖ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﻗﺒﻠﻮﻩ ﻭﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻮاﻓﻖ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﺭﺩﻭﻩ، ﻓﺼﺎﺭ اﻹﺳﻼﻡ ﻏﺮﻳﺒﺎ، ﻭاﻟﺴﻨﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ، ﻭﺃﻫﻞ اﻟﺴﻨﺔ ﻏﺮﺑﺎء ﻓﻲ ﺟﻮﻑ ﺩﻳﺎﺭﻫﻢ.

وقال أيضا: ﻓﺪاﻣﺖ ﻟﻬﻢ اﻟﻤﺪﺓ، ﻭﻭﺟﺪﻭا ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻣﻌﻮﻧﺔ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻭﻭﺿﻌﻮا اﻟﺴﻴﻒ ﻭاﻟﺴﻮﻁ ﺩﻭﻥ ﺫﻟﻚ، ﻓﺪﺭﺱ ﻋﻠﻢ اﻟﺴﻨﺔ ﻭاﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﺃﻭﻫﻨﻮﻫﻤﺎ ﻭﺻﺎﺭﺗﺎ ﻣﻜﺘﻮﻣﻴﻦ؛ ﻹﻇﻬﺎﺭ اﻟﺒﺪﻉ ﻭاﻟﻜﻼﻡ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻟﻜﺜﺮﺗﻬﻢ، ﻭاﺗﺨﺬﻭا اﻟﻤﺠﺎﻟﺲ، ﻭﺃﻇﻬﺮﻭا ﺭﺃﻳﻬﻢ، ﻭﻭﺿﻌﻮا ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﺘﺐ، ﻭﺃﻃﻤﻌﻮا اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻃﻠﺒﻮا ﻟﻬﻢ اﻟﺮﻳﺎﺳﺔ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻓﺘﻨﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻟﻢ ﻳﻨﺞ ﻣﻨﻬﺎ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻋﺼﻢ اﻟﻠﻪ. شرح السنة للبربهاري.

فكيف يقال: إن بدعهم لم تكن ظاهرة؟

ولو سلمنا بهذا الكلام فقد قلنا أن السلف تكلموا عن الطوائف بالعموم وبينوا ردتها ولم يكن كلامهم فقط عن أعيان يكتمون بدعهم.

وفي قصة يعقوب القمي - رحمه الله - ما يبين بطلان ما زعموه، أن الرافضة وغيرهم لم تكن لهم شوكة ليظهروا كفرهم، ويعقوب القمي هو أبو الحسن، توفي في 180 من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد ولد بقم، وهي بلدة أغلبها روافض، ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﻧﻌﻴﻢ: ﻛﺎﻥ ﺟﺮﻳﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﺇﺫا ﺭﺁﻩ ﻗﺎﻝ: (ﻫﺬا ﻣﺆﻣﻦ ﺁﻝ ﻓﺮﻋﻮﻥ، ﻳﻌﻨﻲ ﻟﻜﺜﺮﺓ اﻟﺮاﻓﻀﺔ ﺑﻘﻢ.) تاريخ الإسلام (4/767)

قال أبو الشيخ الأصبهاني: ﻳﻌﻘﻮﺏ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ اﻷﺷﻌﺮﻱ اﻟﻘﻤﻲ ﻳﻜﻨﻰ ﺑﺄﺑﻲ اﻟﺤﺴﻦ، ﺭﻭﻯ ﻋﻨﻪ ﺟﺮﻳﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ، ﻭﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﺑﻦ ﻣﻬﺪﻱ، ﻭﻋﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﺃﺩﺭﻛﻪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻌﺮاﻕ، ﻭﻛﺎﻥ ﺟﺮﻳﺮ ﺇﺫا ﻣﺮ ﺑﻪ ﻳﻌﻘﻮﺏ اﻟﻘﻤﻲ ﻳﻘﻮﻝ: (ﻫﺬا ﻣﺆﻣﻦ ﺁﻝ ﻓﺮﻋﻮﻥ.) طبقات المحدثين بأصبهان (2/34)

وقال أيضا: ﺣﺪﺛﻨﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻳﺤﻴﻰ ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﺖ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺣﻤﺰﺓ، ﻳﻘﻮﻝ: (ﺗﺤﻮﻝ ﻳﻌﻘﻮﺏ اﻟﻘﻤﻲ، ﻋﻦ ﻗﺼﺒﺔ ﻗﻢ، ﺇﻟﻰ ﻗﺮﻳﺔ ﺧﺎﺭﺟﺔ ﻣﻦ ﻗﻢ، ﻓﻜﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ، ﺃﻭ ﻓﻲ ﺃﻭﻗﺎﺕ، ﻟﺨﺎﺩﻣﻪ: ﺃﺷﺮﻑ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻞ اﻟﻘﺮﻳﺔ، ﻫﻞ ﺧﺴﻒ ﺑﻬﻢ اﻟﺒﺎﺭﺣﺔ؟) طبقات المحدثين بأصبهان (2/35)

فإذا تأملت هذا ظهر لك بطلان ما زعموه من أن الرافضة كانوا لا يُعرفون، وأن السلف حكموا بردتهم لأنهم لم يظهروا الكفر ابتداء، فها هي قم فيها شوكة للرافضة، ولم يُنقل عن أحد من السلف أنه قال الرافضة هناك حكمهم غير وحكم عليهم بالكفر الأصلي او كفرهم بالعموم البدعي دون تفريق بين النوع والعين.

وهؤلاء القوم يتفاوتون في ضلالهم، فمنهم من بدّعَنا لقولنا هذا، ومنهم من اعتدى وزاد في الاعتداء فأكفرنا وأكفَر من لم يكفرنا، ونحن قلنا ونقول ونعيد: إننا نحكم بردتهم لا لأنهم دخلوا الإسلام الحقيقي وخرجوا منه، فهذا حصر وقُصور لمعنى الردة عند السلف، فالمرتد قد يكون دخل الإسلام الحقيقي وخرج منه، أو قد يسمى مرتدا لأن أحكام المرتد تُطبَّق عليه، فنحن لا نقصد بالردة أنه دخل الإسلام الحقيقي بل دخل الاسلام الحكمي بالشهادة ثم نقضه بالشرك، وهذا ثابت عن أهل العلم.

ومن هذا يستفاد أن باب الأسماء والاحكام يأخذ من الكتاب والسنة وليس من العقل كما عند المعتزلة.

قال ابن بطة في الإبانة الكبرى:

301 - ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺃﺑﻮ ﺣﻔﺺ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺭﺟﺎء، ﻗﺎﻝ: ﻧﺎ ﻋﺼﻤﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻋﺼﻤﺔ، ﻗﺎﻝ: ﻧﺎ اﻟﻔﻀﻞ، ﻗﺎﻝ: ﻧﺎ ﺃﺑﻮ ﻃﺎﻟﺐ، ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﺖ ﻷﺑﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ: (ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﺭﺟﻞ: ﻟﻢ ﻗﻠﺖ: ﻣﻦ ﻛﻔﺮ ﺑﺂﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻓﻘﺪ ﻛﻔﺮ؟ ﻫﻮ ﻛﺎﻓﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﻴﻬﻮﺩﻱ ﻭاﻟﻨﺼﺮاﻧﻲ ﻭاﻟﻤﺠﻮﺳﻲ، ﺃﻭ ﻛﺎﻓﺮ ﺑﻨﻌﻤﺔ، ﺃﻭ ﻛﺎﻓﺮ ﺑﻤﻘﺎﻟﺘﻪ؟ ﻗﻠﺖ: ﻻ ﺃﻗﻮﻝ ﻫﻮ ﻛﺎﻓﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﻴﻬﻮﺩﻱ ﻭاﻟﻨﺼﺮاﻧﻲ ﻭاﻟﻤﺠﻮﺳﻲ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺜﻞ اﻟﻤﺮﺗﺪ، ﺃﺳﺘﺘﻴﺒﻪ ﺛﻼﺛﺎ، ﻓﺈﻥ ﺗﺎﺏ ﻭﺇﻻ ﻗﺘﻠﺘﻪ. ﻗﺎﻝ: ﻣﺎ ﺃﺣﺴﻦ ﻣﺎ ﻗﻠﺖ، ﻣﺎ ﻛﺎﻓﺮ ﺑﻨﻌﻤﺔ ﻣﻦ ﻛﻔﺮ ﺑﺂﻳﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﻔﺮ، ﻗﻠﺖ: ﺃﻟﻴﺲ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﻤﺮﺗﺪ ﺇﻥ ﺗﺎﺏ ﻭﺇﻻ ﻗﺘﻞ؟ ﻗﺎﻝ: ﻧﻌﻢ)

302 - (ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﻃﺎﻟﺐ: ﻭﻗﻠﺖ ﻷﺑﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ: ﺳﺄﻟﻨﻲ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻋﻦ اﻟﺠﻬﻤﻲ ﻳﻘﻮﻝ: اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﺨﻠﻮﻕ، ﻓﻬﻮ ﻛﺎﻓﺮ؟ ﻗﻠﺖ ﻗﻮﻡ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺣﻼﻝ اﻟﺪﻡ ﻭاﻟﻤﺎﻝ، ﻟﻮ ﻟﻘﻴﺘﻪ ﻓﻲ ﺧﻼء ﻟﻘﺘﻠﺘﻪ؟ ﻗﺎﻝ: ﻣﻦ ﻫﺆﻻء؟ ﻫﺬا اﻟﻤﺮﺗﺪ ﻳﺴﺘﺘﺎﺏ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻳﺎﻡ، ﻗﻮﻝ ﻋﻤﺮ ﻭﺃﺑﻲ ﻣﻮﺳﻰ، ﻭﻫﺬا ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﻤﺮﺗﺪ ﻳﺴﺘﺘﺎﺏ)

ومن العجيب أن أحدا بعث لي بكلام لأحدهم يزعم فيه أننا أصحاب قياس وأننا قِسنا حالنا بحال السلف وهذا قياس فاسد، وهذا والله كما قيل "رمتني بدائها وانسلت"

فكل ما قمنا به أننا نظرنا في أقوال السلف فوجدناها موافقة للحق والصواب فنزلناها على هؤلاء، وهذا المفتري هو والله أحق الناس بهذا الوصف، فقد قاس الرافضة والجهمية وغيرهم باليهود والنصارى وكفار قريش، فمن الذي قاس قياسا فاسدا ؟

ووجه فساد هذا القياس أن اسم الردة وباب الاسماء والاحكام وما يترتب عليه من أحكام من مسائل الشرائع حتى يُحتجّ علينا بقوم نوح وقريش وغيرهم ممن لم ينتسبوا لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن وقفنا عند الأثر ولم نجاوزه ولم نتكلف ولم نتنطع، فلم نقل أن الردة تورث في شريعة نوح أو موسى أو غيرهما من الأنبياء عليهم السلام، بل قلنا ما استقر عليه سلف الأمة هو تسمية هذه الطوائف بالمرتدة، فلا تلزمونا بجهلكم وأن هذا يلزم منه أن الناس من عصر نوح كفار أصليون.

قال الله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)
وقال: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)

وأما ما يستدل به بعضهم أن الردة هي الرجوع عن الإسلام والكفر بعد الإيمان، فهذا نوع منها وحصرها في هذا قصور، وكذلك قول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله ..}

فالآية يخاطب فيها الله تعالى عباده المؤمنين ويخبرهم أن من رجع عن الإسلام وكفر فسوف يستبدله الله، ووالله من فهم من هذه الآية حصر معنى الردة في الرجوع عن الإسلام للكفر فهو إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى إقامة الدليل عليه، فالآية فيها خطاب للمؤمنين وتحذير لهم من الكفر بعد أن آمنوا.

ثم هؤلاء المبتدعة الذين حكموا بالكفر الأصلي على طوائف الردة بالعموم البدعي دون تفريق بين النوع والعين ودون تفريق بين كفر الطائفة وكفر الأعيان تناقضوا، فلم ينزلوا عليهم أحكام الكفار الأصليين بحذافيرها، بل خلطوا بين أحكام الكفار الأصليين وأحكام المرتدين، وذلك من عدة أوجه أبرزها:

▪ أنهم لا يقبلون منهم الشهادة ليكفوا عن قتلهم، فتناقضوا، قالوا: نعاملهم كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل من كفار قريش الشهادة أم لا؟، وهل كان يكفُّ عنهم أثناء القتال إذا تلفظوا بها أم لا ؟
قد يقول قائل منهم: لكن كفار قريش علموا معنى الشهادة وهؤلاء جهلوا معناها، فنقول: حتى لو علموا هؤلاء معنى الشهادة وأرادوا الدخول في الإسلام فالقدر المجزئ في ذلك هو الشهادة والتبرأ من الكفر الذي كانوا عليه ومن أقوامهم، بعكس الكافر الأصلي.

جاء في مسائل الإمام أحمد وإسحاق التي رواها الكوسج: [3477] ﺳﺄﻟﺖ ﺃﺣﻤﺪ ﻋﻦ اﻟﺮﺟﻞ ﻳﻌﺮﺽ ﻋﻠﻴﻪ اﻹﺳﻼﻡ ﻋﻨﺪ اﻟﻤﻮﺕ ﻳﻘﺮ ﻭﻳﺸﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﻥ ﻣﺤﻤﺪا ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺃﻳﺮﺛﻪ ﻭاﺭﺛﺔ اﻹﺳﻼﻡ؟

ﻗﺎﻝ: (ﻧﻌﻢ، ﻭﻣﻦ ﻳﻘﻮﻝ ﻏﻴﺮ ﻫﺬا؟!. ﻫﺆﻻء ﻓﻲ ﻣﺬﻫﺒﻬﻢ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻫﻜﺬا، ﻭﻟﻜﻦ اﻟﻌﺠﺐ. ﺃﻱ ﻻ ﻳﻮاﻓﻘﻮﻥ.) يقصد أهل الرأي.

وهذا مذهب أهل الحديث رحمهم الله، أن الكافر الأصلي يحصل دخوله للإسلام بالشهادة، والإتيان بلفظ البراءة مستحب وليس شرطا، وقد أنكر الإمام أحمد على أبي حنيفة واشتد نكيره عليه لما زعم أن اليهودي أو النصراني لا بد أن يقرن البراءة من الكفر بالشهادة ليتم إسلامه، ومن أراد أن يقرأ أقوال أبي عبدالله في الباب فليراجع أحكام أهل الملل للخلال، ولم أنقلها هنا لئلا أطيل.

أما القول بأن اليهود يتلفظون بالشهادة والقياس على ذلك فخطأ، لأنهم يقولونها مِن باب الإخبار وليس أنهم يشهدون شهادة تقتضي العمل.

قال الخلال في أحكام أهل الملل والردة: 835 - ﺃﺧﺒﺮﻧﺎ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﺑﻦ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻤﺴﺘﻠﻤﻲ اﻟﻨﺠﺎﺭ ﺑﻄﺮﻃﻮﺱ، ﺃﻧﻬﻢ ﺳﺄﻟﻮا ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻋﻦ ﺭﺟﻞ ﻧﺼﺮاﻧﻲ، ﺃﻭ ﻳﻬﻮﺩﻱ ﻗﺎﻝ: ﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻥ ﻣﺤﻤﺪا ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ؟ ﻗﺎﻝ: (ﻓﻘﺪ ﺃﺳﻠﻢ.)
ﻓﻘﻠﻨﺎ ﻟﻪ: ﻗﺎﻝ ﺫاﻙ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﺭﺟﻞ ﺑﻄﺮﻃﻮﺱ.
ﻓﻘﺎﻝ ﻓﻴﻪ اﺑﻦ ﺷﻴﺒﻮﻳﻪ: ﺭﺃﻳﺘﻪ ﻗﺪ ﺃﺳﻠﻢ، ﻭﻗﺎﻝ ﻏﻴﺮﻩ: ﻻ.
ﺣﺘﻰ ﻳﻘﻮﻝ: ﺑﺮﺋﺖ ﻣﻦ اﻟﻨﺼﺮاﻧﻴﺔ، ﻭﺗﺮﻛﺖ ﺩﻳﻨﻲ.

ﻓﻘﺎﻝ: (ﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ! ﻟﻘﺪ ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ، ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻟﺮﺟﻞ: ﻗﻞ: ﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻧﻲ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻓﺄﺳﻠﻢ ﺑﺬاﻙ.)

ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: (ﻛﻞ ﻣﻦ ﻧﻈﺮ ﻓﻲ ﺭﺃﻱ ﺃﺑﻲ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﺇﻻ ﻛﺎﻥ ﺩﻏﻞ اﻟﻘﻠﺐ ﻳﺬﻫﺐ ﺇﻟﻴﻪ.)

836 - ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ، ﻗﺎﻝ: ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺑﻜﺮ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ، ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ: ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺃﺑﻲ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﻭﻫﻮ ﺑﺮﻱء ﻣﻦ ﺩﻳﻨﻪ، ﻭﺇﻻ ﻓﻼ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺴﻠﻤﺎ.

ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ: (ﺇﺫا ﻗﺎﻝ: ﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻥ ﻣﺤﻤﺪا ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﺫا ﺟﺎء ﻳﺮﻳﺪ اﻹﺳﻼﻡ ﻓﻬﻮ ﻣﺴﻠﻢ، ﻭﺃﻣﺎ ﺇﺫا ﻗﺎﻝ: ﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻥ ﻣﺤﻤﺪا ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻭﻫﻮ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ اﻹﺳﻼﻡ ﻟﻢ ﺃﺟﺒﺮﻩ.)

837 - ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺎﺭﻭﻥ، ﻗﺎﻝ: ﺣﺪﺛﻨﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺎﺷﻢ، ﻗﺎﻝ: ﺩﻓﻊ ﺇﻟﻲ ﻓﻮﺯاﻥ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻦ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺃﺑﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: ﺳﺄﻟﺘﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﺖ: اﻟﻴﻬﻮﺩ ﻳﻘﻮﻝ ﺑﻌﻀﻬﻢ: ﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻣﺤﻤﺪا ﻋﺒﺪﻩ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ.
ﻓﻘﺎﻝ: ﺇﺫا ﻟﻢ ﻳﺮﺩ اﻹﺳﻼﻡ.

ﺃﻣﺎ ﺇﺫا ﺟﺎء ﻟﻴﺴﻠﻢ، ﻓﺸﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻥ ﻣﺤﻤﺪا ﻋﺒﺪﻩ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ، ﻭﺻﻠﻰ، ﻓﺄﻱ ﺇﺳﻼﻡ ﺃﺗﻢ ﻣﻦ ﻫﺬا؟ ﺃﻟﻴﺲ ﻳﺮﻭﻯ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ، ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ: "ﺃﻣﺮﺕ ﺃﻥ ﺃﻗﺎﺗﻞ اﻟﻨﺎﺱ ﺣﺘﻰ ﻳﻘﻮﻟﻮا: ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻓﺈﺫا ﻗﺎﻟﻮﻫﺎ ﻣﻨﻌﻮا ﻣﻨﻲ ﺩﻣﺎءﻫﻢ ﻭﺃﻣﻮاﻟﻬﻢ"؟

فانظر قوله إذا أراد الإسلام، أي إذا تلفظ بها شهادةً وليس إخباراً.

تنبيه: قد تجد أن بعض أهل العلم (كإسحاق بن راهويه) يذكر البراءة من الكفر في اليهودي والنصراني، نقول: هذا مستحب وليس بشرط في صحة الإسلام، وما قاله ابن المنذر أن في المسألة خلاف، فإن ابن المنذر يحكي الخلاف إذا كان واقعا ولو لم يكن معتبرا، فالخلاف هنا واقع وليس معتبرا، وهو خلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، وأرجع وأقول: الكافر الأصلي تلفظه بالبراءة مع الشهادة هذا مستحب وليس شرطا، وقد مر معنا قول الإمام أحمد - رحمه الله -.

وليس لهؤلاء القوم سلف إلا أهل الرأي (في اشتراط البراءة للكافر الأصلي)، وبعضهم لا يجد ما ينقل في هذا الباب عن السلف، فتجده ينقل عن أئمة الأشاعرة كالنووي والقاضي عياض والخطابي وابن حجر وغيرهم من الأشاعرة، أو الكاساني من الحنفية، ولم يدر المسكين أن هذه المسألة مما اختلف فيها أهل الحق من أهل الحديث مع أهل الرأي، وبعضهم تجده يتبجح باتباع الآثار والسنن، فإذا جاء لهذه المسألة لم يجد قولا واحدا عن السلف ينصر مذهبه، فيطفق ينقل أقوال المتأخرين كأبن بطين وحمد بن عتيق والصنعاني.

وهنا يجب أن أبين أمرا، إن اليهودي والنصراني يحصل دخوله للإسلام بالشهادة بأحد أمرين:

1- أن يقرأ كتاب الله عز وجل والآيات التي فيها كفر أهل الكتاب، وفيها بيان دين الحق دين الإسلام، ولا يحرف له أحد تفسير هذه الآيات، فإذا قرأ القرآن فنطق بالشهادة يريد الدخول للإسلام فنحكم بإسلامه.

قال الله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ۚ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُلْ لَا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [سورة اﻷنعام 19]

قال ابن أبي حاتم في تفسيره 7165 - ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺃﺑﻮ ﺳﻌﻴﺪ اﻷﺷﺞ، ﺛﻨﺎ ﻭﻛﻴﻊ ﻭﺃﺑﻮ ﺃﺳﺎﻣﺔ ﻭﺃﺑﻮ ﺧﺎﻟﺪ، ﻋﻦ ﻣﻮﺳﻰ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪﺓ، ﻋﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻛﻌﺐ ﻗﻮﻟﻪ: ﻭﻣﻦ ﺑﻠﻎ ﻗﺎﻝ: (ﻣﻦ ﺑﻠﻐﻪ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻜﺄﻧﻤﺎ ﺭﺃﻯ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺛﻢ ﻗﺮﺃ: ﻭﻣﻦ ﺑﻠﻎ ﺃﺇﻧﻜﻢ ﻟﺘﺸﻬﺪﻭﻥ.) ﻭﻓﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﺑﻲ ﺧﺎﻟﺪ ﺯﻳﺎﺩﺓ: ﻓﻜﺄﻧﻤﺎ ﺭﺃﻯ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻛﻠﻤﻪ.

فالذي قرأ القرآن واستجاب فهو من المسلمين، والقرآن أعظم داعية.

وبعض الزنادقة قد يجعل قوله حجة أبلغ من القرآن والسنة، فتجده يحكم بالإسلام للكتابي إذا كان هو الداعية، بينما لا يحكم بالإسلام لكن كان داعيته القرآن فقرأه واستجاب لنداء الله.

2- أن يكون هذا الكتابي قد عرض عليه الإسلام موحد وشرحه له، كما كان حال الملوك وغيرهم لما كان يشرح لهم الإسلام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهذا أيضا يحصل دخوله للإسلام بالنطق بالشهادة مع العمل بمقتضاها.

▪ وكذلك من تناقضاتهم (أغلبهم) أنهم يكفرون من يقر أخذ الجزية ممن يحكمون هم عليهم بأنهم كفار اصليون من طوائف الردة، وفي المسألة خلاف بين السلف (أعني أخذ الجزية من أصناف الكفار الأصليين)، وإن كان الراجح أن الجزية لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقد ﺫﻫﺐ ﻣﺎﻟﻚ ﻭاﻷﻭﺯاﻋﻲ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻪ ﺗﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻜﻔﺎﺭ، وهذا من اظهر الامور على ضلالاهم فهم يأصلون التكفير على أهل الشهادتين بالعموم ثم يكفرون من يقر أخذ الجزية طردا لأصله من اصحابهم في الغلو في التكفير.

والخلاف ليس صوريا أو في الذهن فقط كما قد يتوهم بعضهم، فمنهم من بدعنا ومنهم من كفرنا من أجل هذا، وهذا والله تبديع وتكفير بمحض السنة والاتباع، فليحذر من يكفر بهذا فإنه للكفر منه أقرب للإيمان.

ولبيان أن الخلاف حقيقي، وأن المخالف قد وقع في اضطراب فخلط بين أحكام الكفار الأصليين والمرتدين، نذكر ما ذكره صاحب الأحكام السلطانية (ص 97-98)، قال: ﻭلدار اﻟﺮﺩﺓ ﺣﻜﻢ ﺗﻔﺎﺭﻕ ﺑﻪ ﺩاﺭ اﻹﺳﻼﻡ ﻭﺩاﺭ اﻟﺤﺮﺏ (أي دار الكفر الأصلي)

ﻓﺄﻣﺎ ﻣﺎ ﺗﻔﺎﺭﻕ ﺑﻪ ﺩاﺭ اﻹﺳﻼﻡ ﻓﻤﻦ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺃﻭﺟﻪ:

ﺃﺣﺪﻫﺎ: ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﻬﺎﺩﻧﻮا ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮاﺩﻋﺔ ﻓﻲ ﺩﻳﺎﺭﻫﻢ، ﻭﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﻬﺎﺩﻥ ﺃﻫﻞ اﻟﺤﺮﺏ.
ﻭاﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺼﺎﻟﺤﻮا ﻋﻠﻰ ﻣﺎﻝ ﻳﻘﺮﻭﻥ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺭﺩﺗﻬﻢ، ﻭﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺼﺎﻟﺢ ﺃﻫﻞ اﻟﺤﺮﺏ.
ﻭاﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﻮﺯ اﺳﺘﺮﻗﺎﻗﻬﻢ ﻭﻻ ﺳﺒﻲ ﻧﺴﺎﺋﻬﻢ، ﻭﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﺮﻕ ﺃﻫﻞ اﻟﺤﺮﺏ ﻭﺗﺴﺒﻰ ﻧﺴﺎﺅﻫﻢ.
ﻭاﻟﺮاﺑﻊ: ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ اﻟﻐﺎﻧﻤﻮﻥ ﺃﻣﻮاﻟﻬﻢ، ﻭﻳﻤﻠﻜﻮﻥ ﻣﺎ ﻏﻨﻤﻮﻩ ﻣﻦ ﻣﺎﻝ ﺃﻫﻞ اﻟﺤﺮﺏ.

ﻭﺃﻣﺎ ﻣﺎ ﺗﻔﺎﺭﻕ ﺑﻪ ﺩاﺭ اﻹﺳﻼﻡ ﻓﻤﻦ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺃﻭﺟﻪ:

ﺃﺣﺪﻫﺎ: ﻭﺟﻮﺏ ﻗﺘﺎﻟﻬﻢ ﻣﻘﺒﻠﻴﻦ ﻭﻣﺪﺑﺮﻳﻦ ﻛﺎﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ.
ﻭاﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺇﺑﺎﺣﺔ ﺇﻣﺎﺋﻬﻢ ﺃﺳﺮﻯ ﻭﻣﻤﺘﻨﻌﻴﻦ.
ﻭاﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺗﺼﻴﺮ ﺃﻣﻮاﻟﻬﻢ ﻓﻴﺌﺎ ﻟﻜﺎﻓﺔ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ.
ﻭاﻟﺮاﺑﻊ: ﺑﻄﻼﻥ ﻣﻨﺎﻛﺤﺘﻬﻢ ﺑﻤﻀﻲ اﻟﻌﺪﺓ ﻭﺇﻥ اﺗﻔﻘﻮا ﻋﻠﻰ اﻟﺮﺩﺓ.

وهذا التقسيم موافق لأصول الشرع وما دل عليه الكتاب والسنة وتعامل الصحابة رضي الله عنهم مع المرتدين.

والمخالف في هذا قد تناقض ولا ريب، إذ أن اسم الكافر الأصلي يتبعه أحكام تختلف عن الأحكام التي تتبع اسم المرتد، ولا يصح تنزيل حكم واحد من أحكام المرتد على الكافر الأصلي.

أما من يقول: بأن من قامت عليه الحجة من اعيان هؤلاء الطوائف فعليه أن يعتقد أنهم زناة وأن أبناءهم أبناء زنا، فهذا قول جاهل لا يفرق بين الزنا ونكاح الشبهة، فمن قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة والمشاقة لله ورسوله فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين سواء كان الناكح كافرا أو مسلما. واليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإن كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين ومن استحله كان كافرا تجب استتابته. وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطئها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين.

ومثل هذا كثير. فإن "ثبوت النسب" لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر؛ بل الولد للفراش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فمن طلق امرأته ثلاثا ووطئها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله. وإما لفتوى مفت مخطئ قلده الزوج. وإما لغير ذلك فإنه يلحقه النسب ويتوارثان بالاتفاق؛ بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها؛ فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش. ومن نكح امرأة " نكاحا فاسدا " متفقا على فساده أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده أو مختلفا في فساده أو وطئها يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة: فإن ولده منها يلحقه نسبه ويتوارثان باتفاق المسلمين. والولد أيضا يكون حرا؛ وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها؛ لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع؛ فإنما وطئ من يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة: فولده منها حر؛ لاعتقاده. وإن كان اعتقاده مخطئا وبهذا قضى الخلفاء الراشدون واتفق عليه أئمة المسلمين. فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق؛ لإفتاء من أفتاهم أو لغير ذلك: كان نسب الأولاد بهم لاحقا ولم يكونوا أولاد زنا؛ بل يتوارثون باتفاق المسلمين. هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا: كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود؛ فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب فكيف بنكاح مختلف فيه وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس وظهر ضعف القول الذي يناقضه وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام؛ لانتفاء الحجة الشرعية؟ فمن قال إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا [لا] يتوارثان هو وأبوه الوطء مخالف لإجماع المسلمين. منسلخ من رتبة الدين فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع؛ ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين. فإن أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق وادعى الإجماع على وقوعه وقال إن الولد ولد زنا: هو المخالف لإجماع المسلمين مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله رب العالمين وإن المفتي بذلك أو القاضي بذلك فعل ما لا يسوغ له بإجماع المسلمين. وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله ولا القضاء بذلك ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين والأحكام باطلة بإجماع المسلمين.

فهذا معتقدنا وهذه أدلته، وليتق الله أناس يقضي أحدهم يومه منبطحا نائما على بطنه، ثم يفيق فيرد أقوال السلف أو يتأولها على غير وجهها، أو يزعم أنه عرف من الحق فيها ما خفي على كثير من الناس، فاتق الله يا عبد الله، واعلم أن التبديع شديد [كما قال أحمد بن حنبل]. والتكفير أشد منه، فلا ينبغي لرجل أن يتقدم بين السلف، ويزعم أنه علم ما جهلوه.

وكذلك ليحذر أناس أرادوا أن يلبسوا التوحيد لَبوس العلمانية، ووالله قد فعلوها، فطفقوا يردون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار السلف، بحجة أنها لا تصلح لهذا الزمان، والله المستعان.

اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.