الاثنين، 14 سبتمبر 2020

رد العلامة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن والعلامة عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب على الخوارج الذين من لا يعذرون بالجهل في الشرك الأكبر ويقول عن عباد القبور أنهم مشركين قبل قيام الحجة

 

بسم الله الرحمن الرحيم


هذا رد من العلامة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن والعلامة عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب على الخوارج الذين لا يعذرون بالجهل في الشرك الاكبر ويقولون عن عباد القبور انهم كفار اصليين، او مرتدين قبل قيام الحجة، ويسوون بين المسلمين الجهال والكفار الأصليين في باب الاسماء والاحكام وذلك بكذبة الاسم والحكم، وفيه بيان أن المعين من المبتدعة عباد القبور لا يخرج من الاسلام ويحكم عليه بالردة الا بعد اقامة الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع.

مع التنبيه: أن من يقول ببدعة عدم العذر بالجهل والتأويل في الشرك الأكبر وذلك بكذبة الاسم والحكم يلزمه تكفير علماء وحكّام (دولة المماليك) وعلماء وحكّام (الدولة العثمانية) وعامة المسلمين، لأن هاتين الدولتين من تأسيسها الى زوالها كانت قبورية ومعطلة للصفات جهمية، وقد رد عليهم شيخ الاسلام ابن تيمية بكتابين:


1- (الاستغاثة في الرد على ابن البكري) في شرك القبور والاوثان
2- (بيان تلبيس الجهمية في الرد على الفخر الرازي) في الشرك في توحيد الأسماء والصفات

وفي الكتابين تبرأ شيخ الاسلام ابن تيمية من الحكم بالردة على اعيان العلماء والحّكام وعامة المسلمين.

قال رحمه الله: (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم، أن لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.) الاستغاثة الرد على البكري 253

وقال: (وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب؛ بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد.) مجموع الفتاوى 35/103

ثم يلزم هذا الخارجي بعد ذلك تكفير شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه والإمام المجدّد محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه لأنهم عذروا العلماء بتأويلهم وعذروا الحكّام وعامة المسلمين بجهلهم ولم يخرجوهم من الإسلام لمانع التأويل والجهل، بل إن شيخ الاسلام ابن تيمية قاتل تحت لواء المماليك

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (مع أن أحمد لم يكفّر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله؛ بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم؛ ويدعو لهم؛ ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة. وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر؛ وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان؛ فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين؛ وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة؛ وإن كانوا جهالا مبتدعين؛ وظلمة فاسقين.) مجموع الفتاوى 7/508

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة؛ وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر؛ لا بمجرد الأدلة العقلية.) مجموع الفتاوى 3/328

وقال: (فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل. فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما... -إلى أن قال:- فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع.) منهاج السنة 5/93


اسماء واحكام من ينطق بالشهادتين:

اما [ مسلم مؤمن ] حكماً
او [ مرتد كافر مشرك ] خالد مخلد في النار وليس هناك مرتد يمتحن يوم القيامة

قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. (البقرة 217)

قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. (النساء 115)

قال شيخ الاسلام ابن تيمية في بيان أن ثبوت اسم الردة والكفر على من (ينطق بالشهادتين) كثبوت الوعيد في الاخرة بحقه:

(لا يلزم إذا كان القول كفراً، أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه) اهـ منهاج السنة 5/240

قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) صحيح البخاري

قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) صحيح البخاري

الشهادتين والصلاة وباقي اركان الإسلام والإيمان (توحـيد وايمان)


قال الإمام ابن بطة: (وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل به المرسلين، وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: إن الصلاة ليست من الإيمان والله عز وجل يقول: {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين}.)  الإبانة الكبرى 2/792

والتوحيد والإيمان يجتمع مع الشرك والكفر اذا وجد مانع من الموانع الشرعية كالإكراه والجهل والتأويل والخطأ

قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض المسلمين الواقعين في شرك القبور الأكبر جهلاً:

(يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه) مجموع الفتاوى 35 / 164 – 166


وقال: (وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى (12/ 500)

وقال: (فغالب الناس إسلامهم حكمي ... إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة كما هو الواقع في كثير من الناس) مجموع الفتاوى ج 26/ ص 32

فمن دخل الإسلام الحكمي بنطقه بالشهادتين فلا يخرج عنه ويسمى مرتدا الا بعد تحقق شرط البيان بركنيه اقامة الحجة وازالة الشبهة.

قال تعالى : {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} (محمد 25).

قال الإمام الحافظ قوام السنة أبوالقاسم الأصبهاني: (ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر، لأنه لم يقصد اختيار الكفر ولا رضي به وقد بلغ جهده فلم يقع له غير ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداه} فكل من هداه الله عز وجل ودخل في عقد الإسلام فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان). الحجة في بيان المحجة (2/511)

قال العلامة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله:

([الرد على المعترض في قوله عن الشيخ وجعل بلاد المسلمين كفارًا أصليين]

وأما قوله: (وجعل بلاد المسلمين كفارًا أصليين).

فهذا كذب وبهت، ما صدر ولا قيل، ولا أعرفه عن أحد من المسلمين فضلًا عن أهل العلم والدين؛ بل كلهم مجمعون على أن بلاد المسلمين لها حكم الإسلام في كل زمان ومكان.

وإنما تكلَّم الناس في بلاد المشركين، الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين، ويجعلونهم أندادًا لله ربِّ العالمين، أو يسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه عند أهل العلم: أن من فعل ذلك ممن يأتي بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردَّة ولم يجعلوه كافرًا أصليًّا، وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد المسمى: "بتطهير الاعتقاد" وعلَّل هذا القول: بأنهم لم يعرفوا ما دلَّت عليه كلمة الإخلاص، فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها، وشيخنا لا يوافقه على ذلك.

ولكن هذا المعترض لا يتحاشى من الكذب ولو كان من الميتة والموقوذة والمتردية، وما رأيت شيخ الإسلام أطلق على بلد من بلاد المنتسبين إلى الإسلام إنها بلد كفر، ولكنه قرر أن دعاء الصالحين وعبادتهم بالاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل، على أنهم وسائط بين العباد وبين الله في الحاجات والمهمات، هو دين المشركين وفعل الجاهلية الضالين من الأميين والكتابيين، فظنَّ هذا أن لازم قوله أنه يحكم على هذه البلاد أنها بلاد كفر، وهذا ليس بلازم، ولو لزم، فلازم المذهب ليس بمذهب، ونحن نطالب الناقل بتصحيح نقله.

نعم؛ ذكر الحنابلة وغيرهم أن البلدة التي تجرى عليها أحكام الكفر، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر؛ وما ظهر فيها هذا وهذا فقد أفتى فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه يراعى فيها الجانبان فلا تعطى حكم الإسلام من كل وجه، ولا حكم الكفر من كل وجه، كما نقله عنه ابن مفلح وغيره.

وقوله: (فلا تؤكل ذبائحهم عنده ولا تحل نساؤهم).

فهذا من نمط ما قبله، والشيخ لا يمنع من ذبيحة الشخص المعين إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ودخل في الإسلام، ما لم يأتِ بمانع يمنع من حل ذبحه، وكذا حكم النساء، فكيف يقول ذلك في أهل بلد وأهل قرية لا يعلم تفاصيل أحوالهم وما يجري منهم من النواقص إلا الله عالم الغيب والشهادة.

وأما القتال: فلم يقاتل إلا أصل الإسلام، والتزام مبانيه العظام، ومن نقل عنه أنه قاتل على غير ذلك فقد كذب وافترى، على أن بعض العلماء يرى القتال على ترك بعض الواجبات. فكيف بما أجمع عليه سلف الأئمة وأئمتها؟.) مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام  ص 22-23 ط دار الهداية

وقال: (وقد رأيت سنة أربع وستين، رجلين من أشباهكم، المارقين، بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه، هو وأمثاله، ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده، الذي رد دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها.

قالا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت؛ ومن جالسه، فهو مثله؛ ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول؛ فزعموا أولا: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس.

وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا له، فيما يستحقه على خلقه، من العبادات، والإلهية، وهذا مجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك؛ وقد أفرد ابن حجر هذه المسألة، بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام.

وقد أظهر الفارسيان المذكوران، التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور.

وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب.

والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب، وفي غيره، لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم، بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن، قال: ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى:

فعليك بالتفصيل والتبيين فال ... إطلاق والإجمال دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبطاال ... أذهان والآراء كل زمان

وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب الحرورية المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا: حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية، وعمرا، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [سورة الأنعام آية: 57] وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة، منذ أنزلت براءة.

وطال بينهما النّزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان، بعد الإعذار والإنذار، والتمس: "المخدج" المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال: " لو يعلم الذي يقاتلونهم، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل"، هذا: وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة، وصوما.) الدرر السنية (1/ 467)

وقال العلامة عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب توضيحا لمنهج امام الدعوة وطلابه وتقريراً للعذر بالجهل والتأويل لمن وقع بالشرك الأكبر "وفيه بيان أن معظم العلماء المتأخرين واقعون في شرك القبور كعلماء دولة المماليك وعلماء الدولة العثمانية ثم تقرير الاعتذار لهم والترحم عليهم والاستفادة من بعض كتبهم":

(فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم، في أن من قال: يا رسول الله، أسألك الشفاعة، أنه مشرك مهدر الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة، ولا سيما المتأخرين، لتصريح علمائهم المعتبرين أن ذلك مندوب، وشنوا الغارة على من خالف في ذلك! قلت: لا يلزم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، كما هو مقرر، ومثل ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو، كما ورد الحديث بذلك.
ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت، ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرا معاندا، كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات؛ وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله، ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون، لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعا، ومن شن الغارة فقط غلط، ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر، وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع، ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، سار فيهم نوره، فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.

فإن قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصرا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة؛ بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم.
هذا وقد رأى معاوية وأصحابه - رضي الله عنهم - منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتاله، ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعا، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وإن كانوا مخطئين، كما أن ذلك مشهور عند أهل السنة.
ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتآليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر، وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين.
هذا ما نحن عليه، مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال، لا إلى من قال، وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقا، أو غير حق، فقلد من قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]، عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف، حتى يستقيم أوده، ويصح معوجه. وجنود التوحيد - بحمد الله - منصورة وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] ، و: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56]. وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، و {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47]، و {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] .) الدرر السنية 1/ 234-236

وقال : (قد قدمنا الكلام على سؤال الميت والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه وبين التوسل به في الدعاء، وأن سؤال الميت والاستغاثة به في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية، على تحريمه وتكفير فاعله، والبراءة منه ومعاداته.

ولكن في أزمنة الفترات وغلبة الجهل، لا يكفر الشخص المعين بذلك، حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله؛ فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر، بخلاف من فعل ذلك جهالة منه، ولم ينبه على ذلك؛ فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه، فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر) الدرر السنية - باب حكم المرتد 10/274

وقال : (وتأمل أيضا قول الشيخ رحمه الله -يعني الامام محمد بن عبدالوهاب-، في آخر الكلام: ولا ريب أن أصل قول هؤلاء، هو الشرك الأكبر، والكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وأن ذلك يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين، كيف صرح بكفر من فعل هذا وردته عن الدين، إذا قامت عليه الحجة من الكتاب والسنة، ثم أصر على فعل ذلك؛ وهذا لا ينازع فيه من عرف دين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ والله أعلم.). اهـ الدرر السنية - باب حكم المرتد 10/236

وسئل عمن وقع منه الكفر جهلاً سواء كان قولا، أو فعلا، أو توسلاً هل يعذر ؟

فأجاب: (إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها.
فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وبقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه ".

فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم.) الدرر السنية 10 /239-240 باب حكم المرتد

وهذا رد تفصيلي على كذبة الإسم والحكم في المرتدين ↓↓

https://kushifalshabahaat.blogspot.com/2019/10/kadhabataismwalhukm.html


مقالات اخرى

1- بعض نصوص ائمة السلف المتقدمين في التفريق بين النوع والعين وفي العذر بالجهل لأعيان الواقعين بالشرك الأكبر ↓↓

https://kushifalshabahaat.blogspot.com/2020/10/altafriqbaynalnawewaleayn.html

2- نص القرآن والسنة وإجماع السلف على العذر بالجهل في الشرك الأكبر ↓↓

https://kushifalshabahaat.blogspot.com/2019/06/ijmaeudhrbialjahl.html

3 - رد شيخ الإسلام على من يقسم الدين الى اصول لا يعذر فيها وفروع يعذر فيها وبيان أن هذا من اقوال المعتزلة وأهل البدع ↓↓

https://kushifalshabahaat.blogspot.com/2019/11/aswlwafurue.html

4- شبهة الفطرة التي يزعمها المعتزلة والخوارج والرد عليها  ↓↓

https://kushifalshabahaat.blogspot.com/2019/06/shabhatalfatra.html

5- شبهة الميثاق التي يحتج بها المعتزلة والخوارج والرد عليها ↓↓

https://kushifalshabahaat.blogspot.com/2019/06/shbhtmithaq.html

الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

معنى التبديل والتشريع شرعاً وبيان كذب وتدليس السرورية الخوارج


بسم الله الرحمن الرحيم


التبديل والتشريع الكفري له شرطين:

1- أن ينسب الحكم بغير ما أنزل الله لله عز وجل ولدينه كذبا وعمدا

2- أن يكون بغير تأويل

 اما مجرد الحكم بغير ما انزل الله او وضع مجالس تسمى تشريعية وهم لا ينسبون حكمهم لله ولدينه فهذا حكم بغير ما انزل الله وهو معصية من المعاصي.

ومن لم يتقيد بالشرطين السابقين يلزمه تكفير أهل البدع لأن كل مبتدع مبدل ومشرع.

 قال عليه الصلاة والسلام لليهود: (يا معشر اليهود، أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى وقد أحصن؟ قالوا: إنا نجده يحمم ويجلد! وسكت حبرهم في جانب البيت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صمته، ألظ ينشده، فقال حبرهم: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد عليهم الرجم!) تفسير الطبري (10/ 306)

 في الحديث السابق نسب اليهود حكمهم المبدل لله عز وجل ولدينه كذبا وعمدا من غير تأويل فبهذا كفروا وصاروا مبدلين مشرعين.

قال شيخ الاسلام ابن تيمية في تقرير ذلك: ("الشرع المبدل" وهو الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمَن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع. كمن قال: إن الدم والميتة حلال.) مجموع الفتاوى 267-268/ 3

(مَن) في قوله: (فمَن قال إن هذا من شرع الله) شرطية واذا انتفى الشرط انتفى المشروط.

 قال ابن العربي المالكي -ونقله الإمام الشنقيطي عن القرطبي مُقرّاً له-: (إنْ حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر) أحكام القرآن 2/625، أضواء البيان 1/407

 بنص الحديث وبهذه النصوص السابقة عن ائمة الإسلام يتبين تدليس وتحريف السرورية الخوارج وافراخهم ومن تابعهم في مسألة التبديل والتشريع.

شبهة الياسق والرد عليها وبيان كذب الخوارج


بسم الله الرحمن الرحيم

 يستدل الخوارج على تكفير من يحكم بغير ما انزل الله ويحكّم القوانين الوضعية بما قاله الإمام ابن كثير في التحاكم إلى الياسق في التفسير والتاريخ، قال في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم...وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله...كما يحكم بها التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جينكيزخان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو كتاب مجموع من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها الكثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل وكثير.) تفسير ابن كثير (2/68).

وقال في البداية والنهاية: (من ترك الشرع المحكّم المنّزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) (13/119).

ورد هذه الشبهة وبيان كذب وغش الخوارج من خلال الأمور الآتية:

1- أن جنكيزخان كان كافرا اصلياً ولم يكن مسلماً.

2- أن التتار كانوا يعتقدون أن جنكيزخان رسول وابن لله عز وجل -تعالى الله عما يقولون-.

3- ان التتار كانوا يعتقدون بشريعة الياسق أنها دين مساوي لدين الرسول صلى الله عليه وسلم.

4- أن المتحاكمين لشريعة الياسق أو الحاكمين بها يفضلونها على شرع الله المنزل على محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، أو يساوونه به أو ينسبونها لله تعالى.


فصل في بيان حال التتار وعقيدتهم في جنكيزخان وشريعة الياسق:

أ- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في بيان أن التتار كانوا يعتقدون أن جنكيزخان رسول: «وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنّه لهم، وشرعه بظنِّه وهواه، حتى يقولوا لما عندهم من المال: هذا رزق جنكسخان، ويشكرونه على أكلهم وشربهم، وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادي لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين» كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (28/522).

وقال أيضًا: «وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكسخان عظيمًا؛ فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح، ويقولون: إن الشمس حَبَّلَت أمه، وأنها كانت في خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حَبِلت، ومعلوم عند كل ذي دين أن هذا كذب، وهذا دليل على أنه ولد زنا، وأن أمه زنت فكتمت زناها، وادعت هذا حتى تدفع عنها معرة الزنا» السابق (28/521).

وقال أيضًا: « كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام، وهو يخاطب المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون، فقال: هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله: محمد وجنكستان، فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين؛ أن يسوي بين رسول الله وأكرم الخلق عليه، وسيد ولد آدم، وخاتم المرسلين، وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرًا وفسادًا وعدوانًا من جنس بختنصر وأمثاله» «مجموع الفتاوى» (28/521).

وقال في بيان حال التتار: «يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأنها كلها طرق إلى الله، بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثم منهم من يرجِّح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجِّح دين المسلمين» «مجموع الفتاوى» (28/523).

وقال أيضًا: «حتى إن وزيرهم هذا الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفًا مضمونه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رضي بدين اليهود والنصارى، وأنه لا ينكر عليهم، ولا يذمون، ولا ينهون عن دينهم، ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام» «مجموع الفتاوى» (28/523).

ب- وقال الذهبي في بيان اعتقاد التتار في جنكيزخان: «ودانت له قبائل المغول، ووضع له ياسة يتمسكون بها لا يخالفونها ألبتة، وتعبدوا بطاعته وتعظيمه» سير الأعلام (22/228).

ج- وقال السيوطي بيان اعتقاد التتار في جنكيزخان: «واستقل جنكيزخان ودانت له التتار وانقادت له، واعتقدوا فيه الألوهية» تاريخ الخلفاء (1/427).

د- وقال السبكي حاكيا عن جنكيزخان أنه: «أمر أولاده بجمع العساكر واختلى بنفسه في شاهق جبل مكشوف الرأس وافقا على رجليه لمدة ثلاثة أيام على ما يقال فزعم –عثره الله- أن الخطاب آتاه بأنك مظلوم واخرج تنتصر على عدوك وتملك الأرض برا وبحرا، وكان يقول: الأرض ملكي والله ملكني إياها» طبقات الشافعية (1/332، 333).

وقال أيضًا أن جنكيزخان كان كافراً اصلياً: «ولا زال أمره يعظم ويكبر، وكان من أعقل الناس وأخبرهم بالحروب ووضع لهم شرعا اخترعه ودينا ابتدعه -لعنه الله- "الياسا" لا يحكمون إلا به، وكان كافرا يعبد الشمس» الطبقات (1/329).

 فتبين من هذه النقول كافراصلياً وأنه كان يدعي أن رسول وأن التتار كانوا يعتقدون ذلك فيه.

 وقد وصف الحافظ ابن كثير ما صدر من كفر جنكيزخان فقال: «ذكر بعضهم: أنه كان يصعد الجبل ثم ينزل، ثم يصعد ثم ينزل مرارا حتى يعي ويقع مغشيا عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقى على لسانه حينئذ... فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها. وذكر الجويني أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال للعبادة فسمع قائلا يقول: إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض» البداية والنهاية (13/118).

 فهذه أوصاف التتر وأحوالهم، ولذلك نقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إجماع المسلمين على كفرهم وهو الحق المبين؛ فهذا الحكم خاص بملوك التتر، ومن كان مثلهم، وصنع صنيعهم.

 الأمر الخامس: وصف ابن كثير وغيره مما سبق ذكرهم أحكام الياسق بـ«الشرع» وفسره السبكي بقوله: «ووضع لهم شرعا اخترعه ودينا ابتدعه؛ دليل على استحلالهم لهذه الأحكام الجاهلية بجعلها دينا من عند الله، وهذا كفر» الطبقات (1/329).

 ويلاحظ في في هذا الوصف: التبديل والاختراع والتعبد، قال ابن العربي: «إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل يوجب الكفر» أحكام القرآن (2/624).

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والشرع المبدل: هو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين، فمن قال: إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع» مجموع الفتاوى (3/268).

 وقال الجصاص: «من حكم بغير ما أنزل الله ثم قال: إن هذا حكم الله فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك» أحكام القرآن للجصاص (4/93).

 فعلة الكفر التبديل والتقول على الله والكذب على الله ورسوله، وقد فعل جنكيزخان كل هذا.

 الأمر السادس: تكفير ابن كثير لهؤلاء المتحاكمين مشروط بتقديم شرعهم المخترع على شرع الله، قال الحافظ في ذلك: « فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر»، وكذا قال: « فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه».

 والتقديم هنا: يعني التفضيل، وهو عمل في القلب أي اعتقاد الأفضلية، فهذا يكفر صاحبه، ولا تعني كلمة التقديم هنا التقديم الظاهري بالحكم بغير حكم الله، وإلا للزم منه أن يكون الذي يحكم بغير حكم الله، ولو في قضية واحدة، مقدمًا لحكمه على حكم الله، فليزم دخوله في هذا الإجماع وتكفيره بذلك، وهذا باطل قطعا، ويؤيد ما قررت: أن ابن كثير ذكر التقديم في البداية والنهاية مقرونًا بالتحاكم إلى الياسق، فدل هذا على أن التحكام يختلف عن التقديم؛ إذ لو كان التقديم هو مجرد التحاكم لكان تكرارا ليس له معنى، قال ابن كثير: « فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه» ومنه الكفر يقع على المتحاكم الذي يقدم -أي يفضل- شرع الله على غيره وليس مجرد التحاكم فقط بل يشترط التفضيل الذي هو من الاستحلال الذي لا يكون إلا في الكفر الأصغر.

 وهنا نقف لكي نقرر على ما تقدم: بأن القانون الوضعي ليس بشرع، ولم يتعبد به الناس، وليس بمقدم على شرع الله في قلوب الحكام، وإن كان الحكم به واقع في بلادهم، إلا أن القياس الذي عقده الخوارج بقياس القانون الوضعي على الياسق قياس مع الفارق من جميع الوجوه.

 ويكون قياسًا صحيحًا لو أن القانون اعتبر شرعا بديلا لحكم الله ويحكم به بين الناس على أنه حكم الله، ويجعل دينًا مقدما ومفضلا على شريعة الله، هنا يكون القياس صحيحا، فمثل هذا الحاكم يكفر بما صنع واخترع، وبما اعتقد في قلبه واقتنع.

 فلقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن ترك الحكم بغير ما أنزل الله مع الإيمان بأصله ليس بكفر ولا شرك مخرج من الملة، وإنما كبيرة:

 قال الإمام السمعاني: «واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية، ويقولون: من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم» تفسير السمعاني (2/42).

 وقد تكلمنا عن مفهوم الخوارج في هذه الآية ورددناه في موضعه عند الكلام على قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وقد رجحنا هناك أن ترك الحكم بذلك ليس شرك بالإتفاق، وأصل الإيمان موجود لم ينتف، فيجوز للحاكم أن يرجع بالتوبة، ويغفر الله له ما كان.

 فعلى ما في مذهب أهل السنة وما تقرر فيه وما اتفقوا عليه من أن الحاكم لا يكفر بترك الحكم، وعليه يفهم كلام ابن كثير، فإن الخوارج يرددون كلامه ولا يعلمون أن العلامة ابن كثير يعتمد على ما تقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة، فحدثنا عن الياسق ويعلم أن من ورائه سيفهم أنه لا يقاس عليه ترك الحكم كما عند أهل السنة، إلا إذا صنع الحاكم مثل ما صنع جنكيز خان من التبديل والتحريف والكذب والاختراع، وجعله دينا للناس وتفضيله على دين الله، فهذا لا شك سيكفر بذلك لأنه استحل ذلك، كما هو معلوم، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.

 الأمر السابع: لقد أوضح العلماء حكم العمل بالقوانين الوضعية استحلالا او تفضيلا او مساواتا، فقال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (وإنما يحرُم إذا كان المستند إلى الشريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهوائهم، وكذلك البادية وعادتهم الجارية... فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها؛ فهو كافر، قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ... وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا: كفر دون الكفر الأكبر؛ لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة) منهاج التأسيس (ص 71).

 وقال العلامة سليمان بن سمحان شارحًا ذلك: (يعني أن استحل الحكم بغير ما أنزل الله ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هو عليه من السوالف والعادات هو الحق، فمن اعتقد هذا فهو كافر، وأما من لم يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر ولا يخرج من الإسلام) مجموعة الرسائل (3/309).

 وخاتمة القول في مسألة قياس القوانين الوضعية على الياسق، فأقول: اعتمادًا على ما اتفق عليه أهل العلم سلفا وخلفًا فإن تبين أن جنكيزخان ادعى انه رسول واخترع دينًا ونسبه إلى الله تعالى وزعم أنه من وحيه وقد اختار لنفسه الشمس يعبدها ليتقرب إلى الله، وطلب من رعيته أن يتقربوا إلى الله بما شاؤوا، ثم إنهم كانوا يعتقدون فيه النبوة وانه ابن لله عز وجل، وأن شرعه وحي من الله ففضلوه على الكتاب والسنة، واعتبروه خيرا من الإسلام كما صرحوا بذلك، ويعلم منه أنه لا علاقة لهذه الأمور الكفرية بالقوانين الوضعية الموجودة الآن فالقياس باطل كاذب.

آثار ائمة الإسلام المتقدمين والمتأخرين في الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين مع رد الشبهات

بسم الله الرحمن الرحمن وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبة اجمعين وبعد:

 

فهذه آثار ائمة السلف المتقدمين والمتأخرين في الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين كابر عن كابر وجيل بعد جيل.

(1)- حبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال:

(من جحد ما أنزل الله، فقد كفر، ومن أقرّ به، لم يحكم به فهو ظالم فاسق).

أخرجه الطبري في «جامع البيان» (6/166) بإسناد حسن. «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للإلباني (6/114)

وقال طاووس عن ابن عباس -أيضاً- في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}؛

قال: (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه).

أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/522/574) بإسناد صحيح. «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للإلباني (6/114)

وفي لفظ: (كفر لا ينقل عن الملة). وفي لفظ آخر: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق).

أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/522/575) «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للإلباني (6/114)

ولفظ ثالث: (هو به كفره، وليس كمن كفر بالله، وملائكته، وكتبه ورسله).

أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/521/570) وإسناده صحيح.

(العلماء الأعلام الذين صرحوا بصحة تفسير ابن عباس واحتجوا به)

الإمام القدوة محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/520)، الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان (ص 45)، الإمام ابن بطة في الإبانة (2/723)، الإمام ابن عبد البر في التمهيد (4/237)، الإمام البغوي في معالم التنزيل (3/61)، شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/312)، الإمام ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين (1/335)، الحاكم في المستدرك (2/393)، ووافقه الذهبي، الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/64) قال: صحيح على شرط الشيخين، الإمام أبو المظفر السمعاني في تفسيره (2/42)، الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (2/624)، الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/190)، الإمام البقاعي في نظم الدرر (2/460)، الإمام الواحدي في الوسيط (2/191)، العلامة صديق حسن خان في نيل المرام (2/472)، العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (2/101)، العلامة أبو حيان في البحر لمحيط (3/492)، العلامة الخازن في تفسيره (1/310)، العلامة السعدي في تفسيره (2/296)، محدث العصر العلامة الألباني في "الصحيحة" (6/109).

قال فقيه الزمان العلامة ابن عثيمين في "التحذير من فتنة التكفير" (ص 6):

(لكن لما كان هذا الأثر لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتكفير؛ صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول! ولا يصح عن ابن عباس! فيقال لهم: كيف لا يصحّ؛ وقد تلقاه من هو أكبر منكم، وأفضل، وأعلم بالحديث؟! وتقولون: لا نقبل ... فيكفينا أن علماء جهابذة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم -وغيرهما- كلهم تلقوه بالقبول ويتكلمون به، وينقلونه؛ فالأثر صحيح.)

(2)- التابعي طاووس بن كيسان (المتوفى سنة : 106 هـ)

حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] قال: (ليس بكفر ينقل عن الملة) بسند صحيح تفسير الطبري جامع البيان ط هجر (8/ 465)

(3) التابعي عطاء بن ابي رباح (المتوفى سنة: 114 هـ)

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45] {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47]

قال: (كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم)

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عطاء، مثله حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي رباح بنحوه حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه.  تفسير الطبري جامع البيان ط هجر (8/ 464)

(3)- إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل (المتوفى سنة:241 هـ)

قال إسماعيل بن سعد في "سؤالات ابن هاني للإمام أحمد بن حنبل" (2/192):

(سألت أحمد: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قلت: فما هذا الكفر؟

قال: (كفر لا يخرج من الملة)

ولما سأله أبو داود السجستاني في سؤالاته (ص 114) عن هذه الآية؛ أجابه بقول التابعي طاووس والتابعي عطاء المتقدمين وهو أنه كفر اصغر ليس بمخرج من الملة.

وذكر شيخ الإسلام بن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/254)، وتلميذه ابن القيم في "حكم تارك الصلاة" (ص 59-60): أن الإمام أحمد -رحمه الله- سئل عن الكفر المذكور في آية الحكم؛ فقال: (كفر لا ينقل عن الملة؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه).

(4)- الإمام محمد بن نصر المروزي (المتوفى سنة: 294 هـ)

قال في "تعظيم قدر الصلاة" (2/520): (ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً دون أصله لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلامة، من ذلك قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.)

وقال (2/523) معقباً على أثر عطاء:(- "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم وفسق دون فسق"-: وقد صدق عطاء؛ قد يسمى الكافر ظالماً، ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل).

(5)- شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري (المتوفى سنة: 310 هـ)

قال في "جامع البيان" (6/166): (وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.

فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟!

قيل: إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس).

(6) الإمام الآجري (المتوفى سنة: 360 هـ)

 روى رحمه الله بإسناده اثرا ثم علق عليه قال: (حدثنا أبو بكر بن أبي داود قال: حدثنا المثنى بن أحمد قال: حدثنا عمرو بن خالد قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {وأخر متشابهات} قال: (أما المتشابهات: فهن آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرءوهن، من أجل ذلك يضل من ضل ممن ادعى هذه الكلمة، كل فرقة يقرءون آيات من القرآن، ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى)

 قال الإمام الآجري تعليقا على الاثر السابق: (ومما تتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ويقرءون معها: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك فهؤلاء الأئمة مشركون، فيخرجون فيفعلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية) الشريعة للآجري (1/ 341)

 (7)- الإمام ابن بطة العكبري (المتوفى سنة: 387 هـ)

 قال في "الإبانة" (2/723): (باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة)، وذكر ضمن هذا الباب: (الحكم بغير ما أنزل الله)، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة).

 (8)- الإمام ابن عبد البر (المتوفى سنة: 463 هـ)

 قال في "التمهيد" (5/74): (وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به، رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف، وقال الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {الظَّالِمُونَ}، {الْفَاسِقُونَ} نزلت في أهل الكتاب، قال حذيفة وابن عباس: وهي عامة فينا؛ قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاووس وعطاء).

 وقال: (وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين واحتجوا من كتاب الله بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وقوله: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} وقوله: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقوله: {إن هم إلا يخرصون} وقوله: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} ونحو هذا وروي عن ابن عباس في قول الله عز وجل ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال ليس بكفر ينقل عن الملة ولكنه كفر دون كفر وقد أوضحنا معنى الكفر في اللغة في مواضع من هذا الكتاب والحجة عليهم قول الله عز وجل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) التمهيد (17/ 16)

 (9)- شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة: 728 هـ)

 قال في بيان أن من يحكم بغير ما انزل الله لا يكفر الا بالاعتقاد، وأن التبديل هو من ينسب حكمه لله ولدينه كذبا وعمدا بغير تأويل: (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء. وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله، ولفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معان: "الشرع المنزل" وهو ما جاء به الرسول وهذا يجب اتباعه ومن خالفه وجبت عقوبته. والثاني "الشرع المؤول" وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه. فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ولا يمنع عموم الناس منه. والثالث "الشرع المبدل" وهو الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع. كمن قال: إن الدم والميتة حلال - ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك.) مجموع الفتاوى 267-268/ 3

 وقال بيان ان الالتزام يكون بالاعتقاد، وان الحكم بغير ما أنزل الله لا يكفر فاعله الا بالإعتقاد: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة. وهذا هو الكفر، فإن كثيرا من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالا، كمن تقدم أمرهم. وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى اللهوالرسول، فقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [سورة النساء 59] .

وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [سورة النساء 65] فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة.

وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله. وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هنا، وما ذكرته يدل عليه سياق الآية.

والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا، في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر.) منهاج السنة 5 / 130-133

 وقال في "مجموع الفتاوى" (7/312): (وإذا كان من قول السلف: (إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق)، فكذلك في قولهم: (إنه يكون فيه إيمان وكفر) ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملّة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قالوا: كفروا كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتّبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة).

 قال شيخ الاسلام ابن تيمية في بيان اشتراط "الإعتقاد" في شرك الطاعة والحكم: (وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحلّ الله يكونون على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله فيتّبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤساهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.

والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما الطاعة في المعروف}، وقال: {على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية}). مجموع الفتاوى 7/70

(10)- الإمام ابن قيم الجوزية (المتوفى سنة: 751 هـ)

قال في "مدارج السالكين" (1/336): (والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مُخيّر فيه، مع تيقُنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. إن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ، له حكم المخطئين.)

وقال في "الصلاة وحكم تاركها" (ص 72): (وههنا أصل آخر، وهو الكفر نوعان: كفر عمل. وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً؛ من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده: فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبيِّ، وسبه؛ يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله ، وترك الصلاة؛ فهو من الكفر العملي قطعاً).

(11)- الحافظ ابن كثير (المتوفى سنة: 774 هـ)

 قال رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (2/61): ({وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال ههنا: (فَأُوْلَـئِكَ هُم الظَّالِمُونَ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا).

 شبهة استدلال الخوارج بكلام الامام ابن كثير وكذبهم عليه رحمه الله والرد على ذلك بالنصوص والبراهين

 يستدل الخوارج بما قاله الإمام ابن كثير في التحاكم إلى الياسق في التفسير والتاريخ، قال في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم...وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله...كما يحكم بها التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جينكيزخان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو كتاب مجموع من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها الكثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل وكثير.) تفسير ابن كثير (2/68).

 وقال في البداية والنهاية: (من ترك الشرع المحكّم المنّزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) البداية والنهاية (13/119).

 ورد هذه الشبهة وكذب الخوارج على العلماء من خلال الأمور الآتية:

1- أن جنكيزخان كان كافرا اصليا ولم يكن مسلماً.

2- أن التتار كانوا يعتقدون أن جنكيزخان رسول وابن لله عز وجل -تعالى الله عما يقولون-.

3- ان التتار كانوا يعتقدون بشريعة الياسق أنها دين مساوي لدين الرسول صلى الله عليه وسلم.

4- أن المتحاكمين إليها أو الحاكمين بها يفضلونها على شرع الله المنزل على محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، أو يساوونه به أو ينسبونها لله تعالى.

فصل في بيان حال التتار وعقيدتهم في جنكيزخان وشريعة الياسق:

أ- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في بيان أن التتار كانوا يعتقدون أن جنكيزخان رسول: «وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنّه لهم، وشرعه بظنِّه وهواه، حتى يقولوا لما عندهم من المال: هذا رزق جنكسخان، ويشكرونه على أكلهم وشربهم، وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادي لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين» كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (28/522).

وقال أيضًا: «وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكستان عظيمًا؛ فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح، ويقولون: إن الشمس حَبَّلَت أمه، وأنها كانت في خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حَبِلت، ومعلوم عند كل ذي دين أن هذا كذب، وهذا دليل على أنه ولد زنا، وأن أمه زنت فكتمت زناها، وادعت هذا حتى تدفع عنها معرة الزنا» السابق (28/521).

وقال أيضًا: « كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام، وهو يخاطب المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون، فقال: هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله: محمد وجنكستان، فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين؛ أن يسوي بين رسول الله وأكرم الخلق عليه، وسيد ولد آدم، وخاتم المرسلين، وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرًا وفسادًا وعدوانًا من جنس بختنصر وأمثاله» «مجموع الفتاوى» (28/521).

وقال في بيان حال التتار: «يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأنها كلها طرق إلى الله، بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثم منهم من يرجِّح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجِّح دين المسلمين» «مجموع الفتاوى» (28/523).

وقال أيضًا: «حتى إن وزيرهم هذا الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفًا مضمونه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رضي بدين اليهود والنصارى، وأنه لا ينكر عليهم، ولا يذمون، ولا ينهون عن دينهم، ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام» «مجموع الفتاوى» (28/523).

ب- وقال الذهبي في بيان اعتقاد التتار في جنكيزخان: «ودانت له قبائل المغول، ووضع له ياسة يتمسكون بها لا يخالفونها ألبتة، وتعبدوا بطاعته وتعظيمه» سير الأعلام (22/228).

ج- وقال السيوطي بيان اعتقاد التتار في جنكيزخان: «واستقل جنكيزخان ودانت له التتار وانقادت له، واعتقدوا فيه الألوهية» تاريخ الخلفاء (1/427).

د- وقال السبكي حاكيا عن جنكيزخان أنه: «أمر أولاده بجمع العساكر واختلى بنفسه في شاهق جبل مكشوف الرأس وافقا على رجليه لمدة ثلاثة أيام على ما يقال فزعم –عثره الله- أن الخطاب آتاه بأنك مظلوم واخرج تنتصر على عدوك وتملك الأرض برا وبحرا، وكان يقول: الأرض ملكي والله ملكني إياها» طبقات الشافعية (1/332، 333).

وقال أيضًا أن جنكيزخان كان كافراً اصلياً: «ولا زال أمره يعظم ويكبر، وكان من أعقل الناس وأخبرهم بالحروب ووضع لهم شرعا اخترعه ودينا ابتدعه -لعنه الله- "الياسا" لا يحكمون إلا به، وكان كافرا يعبد الشمس» الطبقات (1/329).

فتبين من هذه النقول كافراصلياً وأنه كان يدعي أن رسول وأن التتار كانوا يعتقدون ذلك فيه.

وقد وصف الحافظ ابن كثير ما صدر من كفر جنكيزخان فقال: «ذكر بعضهم: أنه كان يصعد الجبل ثم ينزل، ثم يصعد ثم ينزل مرارا حتى يعي ويقع مغشيا عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقى على لسانه حينئذ... فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها. وذكر الجويني أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال للعبادة فسمع قائلا يقول: إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض» البداية والنهاية (13/118).

فهذه أوصاف التتر وأحوالهم، ولذلك نقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إجماع المسلمين على كفرهم وهو الحق المبين؛ فهذا الحكم خاص بملوك التتر، ومن كان مثلهم، وصنع صنيعهم.

الأمر الخامس: وصف ابن كثير وغيره مما سبق ذكرهم أحكام الياسق بـ«الشرع» وفسره السبكي بقوله: «ووضع لهم شرعا اخترعه ودينا ابتدعه؛ دليل على استحلالهم لهذه الأحكام الجاهلية بجعلها دينا من عند الله، وهذا كفر» الطبقات (1/329).

ويلاحظ في في هذا الوصف: التبديل والاختراع والتعبد، قال ابن العربي: «إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل يوجب الكفر» أحكام القرآن (2/624).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والشرع المبدل: هو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين، فمن قال: إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع» مجموع الفتاوى (3/268).

وقال الجصاص: «من حكم بغير ما أنزل الله ثم قال: إن هذا حكم الله فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك» أحكام القرآن للجصاص (4/93).

فعلة الكفر التبديل والتقول على الله والكذب على الله ورسوله، وقد فعل جنكيزخان كل هذا.

الأمر السادس: تكفير ابن كثير لهؤلاء المتحاكمين مشروط بتقديم شرعهم المخترع على شرع الله، قال الحافظ في ذلك: « فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر»، وكذا قال: « فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه».

والتقديم هنا: يعني التفضيل، وهو عمل في القلب أي اعتقاد الأفضلية، فهذا يكفر صاحبه، ولا تعني كلمة التقديم هنا التقديم الظاهري بالحكم بغير حكم الله، وإلا للزم منه أن يكون الذي يحكم بغير حكم الله، ولو في قضية واحدة، مقدمًا لحكمه على حكم الله، فليزم دخوله في هذا الإجماع وتكفيره بذلك، وهذا باطل قطعا، ويؤيد ما قررت: أن ابن كثير ذكر التقديم في البداية والنهاية مقرونًا بالتحاكم إلى الياسق، فدل هذا على أن التحكام يختلف عن التقديم؛ إذ لو كان التقديم هو مجرد التحاكم لكان تكرارا ليس له معنى، قال ابن كثير: « فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه» ومنه الكفر يقع على المتحاكم الذي يقدم -أي يفضل- شرع الله على غيره وليس مجرد التحاكم فقط بل يشترط التفضيل الذي هو من الاستحلال الذي لا يكون إلا في الكفر الأصغر.

وهنا نقف لكي نقرر على ما تقدم: بأن القانون الوضعي ليس بشرع، ولم يتعبد به الناس، وليس بمقدم على شرع الله في قلوب الحكام، وإن كان الحكم به واقع في بلادهم، إلا أن القياس الذي عقده الخوارج بقياس القانون الوضعي على الياسق قياس مع الفارق من جميع الوجوه.

ويكون قياسًا صحيحًا لو أن القانون اعتبر شرعا بديلا لحكم الله ويحكم به بين الناس على أنه حكم الله، ويجعل دينًا مقدما ومفضلا على شريعة الله، هنا يكون القياس صحيحا، فمثل هذا الحاكم يكفر بما صنع واخترع، وبما اعتقد في قلبه واقتنع.

فلقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن ترك الحكم بغير ما أنزل الله مع الإيمان بأصله ليس بكفر ولا شرك مخرج من الملة، وإنما كبيرة:

قال الإمام السمعاني: «واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية، ويقولون: من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم» تفسير السمعاني (2/42).

وقد تكلمنا عن مفهوم الخوارج في هذه الآية ورددناه في موضعه عند الكلام على قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وقد رجحنا هناك أن ترك الحكم بذلك ليس شرك بالإتفاق، وأصل الإيمان موجود لم ينتف، فيجوز للحاكم أن يرجع بالتوبة، ويغفر الله له ما كان.

فعلى ما في مذهب أهل السنة وما تقرر فيه وما اتفقوا عليه من أن الحاكم لا يكفر بترك الحكم، وعليه يفهم كلام ابن كثير، فإن الخوارج يرددون كلامه ولا يعلمون أن العلامة ابن كثير يعتمد على ما تقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة، فحدثنا عن الياسق ويعلم أن من ورائه سيفهم أنه لا يقاس عليه ترك الحكم كما عند أهل السنة، إلا إذا صنع الحاكم مثل ما صنع جنكيز خان من التبديل والتحريف والكذب والاختراع، وجعله دينا للناس وتفضيله على دين الله، فهذا لا شك سيكفر بذلك لأنه استحل ذلك، كما هو معلوم، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.

الأمر السابع: لقد أوضح العلماء حكم العمل بالقوانين الوضعية استحلالا او تفضيلا او مساواتا، فقال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (وإنما يحرُم إذا كان المستند إلى الشريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهوائهم، وكذلك البادية وعادتهم الجارية... فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها؛ فهو كافر، قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ... وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا: كفر دون الكفر الأكبر؛ لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة) منهاج التأسيس (ص 71).

وقال العلامة سليمان بن سمحان شارحًا ذلك: (يعني أن استحل الحكم بغير ما أنزل الله ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هو عليه من السوالف والعادات هو الحق، فمن اعتقد هذا فهو كافر، وأما من لم يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر ولا يخرج من الإسلام) مجموعة الرسائل (3/309).

وخاتمة القول في مسألة قياس القوانين الوضعية على الياسق، فأقول: اعتمادًا على ما اتفق عليه أهل العلم سلفا وخلفًا فإن تبين أن جنكيزخان ادعى انه رسول واخترع دينًا ونسبه إلى الله تعالى وزعم أنه من وحيه وقد اختار لنفسه الشمس يعبدها ليتقرب إلى الله، وطلب من رعيته أن يتقربوا إلى الله بما شاؤوا، ثم إنهم كانوا يعتقدون فيه النبوة، وأن شرعه وحى من الله ففضلوه على الكتاب والسنة، واعتبروه خيرا من الإسلام كما صرحوا بذلك، ويعلم منه أنه لا علاقة لهذه الأمور الكفرية بالقوانين الوضعية الموجودة الآن فالقياس باطل كاذب.

(12)- الإمام الشاطبي (المتوفى سنة: 790 هـ)

قال في "الموافقات" (4/39): (هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم -وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له: كافر).

(13)- الإمام ابن أبي العز الحنفي (المتوفى سنة: 791 هـ)

قال في "شرح الطحاوية" (ص 323): (وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً: أما مجازاً؛ وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعه، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازيا، أو كفراً أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه؛ فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور.)

(14)- الإمام المجدّد محمد بن عبدالوهاب (المتوفى سنة: 1115 هـ)

قال في بيان نواقض الإسلام: (الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت، على حكمه، فهو كافر.) الرسائل الشخصية (ص: 213)، الدرر السنية (2/ 361)

(15)- العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (المتوفى سنة: 1293 هـ)

قال في "منهاج التأسيس" (ص 71): (وإنما يحرُم إذا كان المستند إلى الشريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهوائهم، وكذلك البادية وعادتهم الجارية... فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها؛ فهو كافر، قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ... وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا: كفر دون الكفر الأكبر؛ لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة).

(16)- العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (المتوفى سنة: 1307 هـ)

قال في "تيسير الكريم الرحمن" (2/296-297): (فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرً ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد .. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له).

(17)- العلامة صديق حسن خان القنوجي (المتوفى سنة: 1307 هـ)

قال في "الدين الخالص" (3/305): (الآية الكريمة الشريفة تنادي عليهم بالكفر، وتتناول كل من لم يحكم بما أنزل الله، أللهم إلا أن يكون الإكراه لمهم عذراً في ذلك، أو يعتبر الاستخفاف أو الاستحلال؛ لأن هذه القيود إذا لم تعتبر فيهم، لا يكون أحد منهم ناجياً من الكفر والنار أبداً).

(18)- سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ (المتوفى سنة: 1389 هـ)

قال في "مجموع الفتاوى" (1/80) له: (وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله: من تحكيم شريعته، والتقيد بها، ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من حكم بها [يعني القوانين الوضعية] أو حاكم إليها؛ معتقداً صحة ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، فإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملّة).

تنبيه: هذه الفتوى مؤرخة بتاريخ (19/1/1385)، وهي مفصلة لما أجمل في رسالة: "تحكيم القوانين" فهي متأخرة عنها بخسمة سنين لأن الطبعة الأولى للرسالة كانت في سنة 1380هـ.

وقد اكد الامام ابن باز رحمه الله أن هذا مذهب شيخه ابن ابراهيم ونقل الإجماع على ان الحاكم بالقوانين لا يكفر الا بالاعتقاد فقد سئل رحمه الله:

هل الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- يرى تكفير الحكام على الإطلاق؟

فأجاب: (يرى تكفير من استحل الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون بذلك كافرا. هذه أقوال أهل العلم جميعا: من استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر، أما من فعله لشبهة أو لأسباب أخرى لا يستحله يكون كفرا دون كفر.) مجموع فتاوى ابن باز (28/ 272)

(19)- العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (المتوفى سنة: 1393 هـ)

قال في "أضواء البيان" (2/104): (واعلم: أن تحرير المقال في هذا البحث: أن الكفر والظلم والفسق، كل واحد منها أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} معارضاً للرسل، وإبطالاً لأحكام الله؛ فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج من الملة. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} معتقداً أنه مرتكب حراماً، فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج من الملة).

وقال في بيان اشتراط "الاعتقاد" لكفر المشرع: (فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: {ولا يشرك في حكمه أحدا}. وفي قراءة ابن عامر من السبعة: {ولا تشرك في حكمه أحدا} بصيغة النهي.

وقال في الإشراك به في عبادته: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله.

وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله ← عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه) اضواء البيان 8/48

وقال في بيان أن شرك الطاعة هو شرك الحكم وانه لا بد فيه من استحلال: (وإن أطعتم أتباع الشيطان في تحليل ما حرمه الله {إنكم لمشركون} بالله شركا أكبر، كما قال في هؤلاء {إنما النسيء زيادة في الكفر} وهذا الشرك شرك أكبر مخرج عن الملة؛ لأنه شرك طاعة، وشرك الطاعة شرك في الحكم) العذب النمير (5/ 485)

(20)- سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى سنة: 1420 هـ)

قال رحمه الله: (اطلعت على الجواب المفيد القيّم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – وفقه الله – المنشور في جريدة "الشرق الأوسط" وصحيفة "المسلمون" الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله – من غير تفصيل -، فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيه الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح – وفقه الله – أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله – بمجرد الفعل – من دون أن يعلم أنه استحلّ ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من سلف الأمة.

ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {...الظَّالِمُونَ}، {...الْفَاسِقُونَ}، هو الصواب، وقد أوضح – وفقه الله – أن الكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان: أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفراً أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفراً أصغر وظلمه ظلماً أصغر وهكذا فسقه). جريدة الشرق الأوسط في عددها (6156) بتاريخ 12/5/1416

تنبيه: من استمع إلى شريط: "الدمعة البازية" الذي تضمن تسجيلاً لمجلس علمي راود فيه مجموعة من الدعاة ذائعي الصيت الإمام ابن باز في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ ليقول بالتكفير المطلق بدون تفصيل، فكانوا يحاورنه فيه محاورة شديدة تشبه المحاصرة وأُتي الشيخ من بين ويديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فكان -رحمه الله- ثابتاً راسخاً كالطود الأشم لا يتزعزع ولا يجزع ولا يلين ولا يأبه لما قالوه أو نطقوا به، فكان يؤكد بأن الحكم بغير ما أنزل الله: لو بدل، أو وضع القوانين العامة لا يكفر، ما لم يكن ثمّت استحلال ظاهر معين، وكان يقول: (وخلاف هذا مذهب المبتدعة الخوارج). فرحمه الله رحمة واسعة.

(21)- محدث العصر العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني (المتوفى سنة: 1420)

قال في "التحذير من فتنة التكفير" ( ص 56): ( ... {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}؛ فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة؟ أو أنه غير ذلك؟، فأقول: لا بد من الدقة في فهم الآية؛ فإنها قد تعني الكفر العملي؛ وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام.

ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي أجمع المسلمون جميعاً – إلا من كان من الفرق الضالة – على أنه إمام فريد في التفسير.

فكأنه طرق سمعه -يومئذ- ما نسمعه اليوم تماماً من أن هناك أناساً يفهمون هذه الأية فهماً سطحياً، من غير تفصيل، فقال رضي الله عنه: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه"، و:"أنه ليس كفراً ينقل عن الملة"، و:"هو كفر دون كفر"، ولعله يعني: بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال: ليس الأمر كما قالوا! أو كما ظنوا! إنما هو: كفر دون كفر...).

(22)- فقيه الزمان العلامة محمد بن صالح العثيمين (المتوفى سنة: 1421 هـ)

سُئل في شريط "التحرير في مسألة التكفير" بتاريخ (22/4/1420) سؤالاً مفاده:

إذا ألزم الحاكم الناس بشريعة مخالفة للكتاب والسنة مع اعترافه بأن الحق ما في الكتاب والسنة لكنه يرى إلزام الناس بهذا الشريعة شهوة أو لاعتبارات أخرى، هل يكون بفعله هذا كافراً أم لابد أن يُنظر في اعتقاده في هذه المسألة؟

فأجاب: (... أما في ما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كما في كتابه العزيز، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر، وظلم، وفسق، على حسب الأسباب التي بُني عليها هذا الحكم، فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعاً لهواه مع علمه أن بأن الحق فيما قضى الله به ؛ فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم، وأما إذا كان يشرع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لبس عليه فيه فلا يكفر أيضاً، لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل بعلم الشريعة ويتصل بمن لا يعرف الحكم الشرعي، وهم يرونه عالماً كبيراً، فيحصل بذلك مخالفة، وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستوراً يمشي الناس عليه؛ نعتقد أنه ظالم في ذلك وللحق الذي جاء في الكتاب والسنة أننا لا نستطيع أن نكفر هذا، وإنما نكفر من يرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أولى أن يكون الناس عليه، أو مثل حكم الله عز وجل فإن هذا كافر لأنه يكذب بقول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.)

(23)- اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية

 الفتوى رقم (6310): س: ما حكم من يتحاكم إلى القوانين الوضعية، وهو يعلم بطلانها، فلا يحاربها، ولا يعمل على إزالتها؟

ج: (الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه؛ وبعد:

الواجب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}. والتحاكم يكون إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن يتحاكم إليها مستحلاً التحاكم إلى غيرهما من القوانين الوضعيه بدافع طمع في مال أو منصب؛ فهو مرتكب معصية، وفاسق فسقاً دون فسق، ولا يخرج من دائرة الإيمان).

(24)- الشيخ عبد المحسن العباد البدر -حفظه الله-

سُئل في المسجد النبوي في درس شرح سنن أبي داود بتاريخ: 16/11/1420 :

هل استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية كفر في ذاته؟ أم يحتاج إلى الاستحلال القلبي والاعتقاد بجواز ذلك؟ وهل هناك فرق في الحكم مرة بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين تشريعاً عاماً مع اعتقاد عدم جواز ذلك؟

فأجاب: (يبدو أنه لا فرق بين الحكم في مسألة، أو عشرة، أو مئة، أو ألف – أو أقل أو أكثر – لا فرق؛ ما دام الإنسان يعتبر نفسه أنه مخطئ، وأنه فعل أمراً منكراً، وأنه فعل معصية، وانه خائف من الذنب، فهذا كفر دون كفر.

وأما مع الاستحلال – ولو كان في مسألة واحدة، يستحل فيها الحكم بغير ما أنزل الله، يعتبر نفسه حلالاً-؛ فإنه يكون كافراً).

(25)- الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-

مجموعة فتاوى الشيخ في مسألة تحكيم القوانين الوضعية والتشريع العام والرد على الخوارج

وفيها اشتراط الاعتقاد ونقل الاجماع عليه ↓↓

https://youtu.be/nThOBWVG1wg

هذا ما تيسر جمعه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم