الخميس، 27 يونيو 2019

نص القرآن والسنة واجماع السلف الصالح على العذر بالجهل في الشرك الأكبر


نص القرآن والسنة واجماع السلف الصالح على العذر بالجهل في الشرك الأكبر
وعلى التفريق بين النوع والعين
وأن من دخل الإسلام الحكمي بنطقه بالشهادتين لا يخرج منه ويسمى مرتداً
الا بعد اقامة الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع



بسم الله الرحمن الرحيم

نقل الإمام اللالكائي والإمام السجزي اجماع السلف الصالح على العذر بالجهل في الشرك الأكبر.

وأن الحجة في التوحيد [ بالسمع ] فقط.

وأن معرفة التوحيد بالعقل أوالفطرة ممكنة لكنها ليست حجة بالإجماع خلافاً للمعتزلة والخوارج.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة؛ وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر؛ لا بمجرد الأدلة العقلية.) مجموع الفتاوى 3/328

وقال: (فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل. فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما... -إلى أن قال:- فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع.) منهاج السنة 5/93

فمن نطق بالشهادتين ظاهراً له اسمين:

اما [ مسلم مؤمن ] حكماً
او [ مرتد كافر مشرك ] خالد مخلد في النار وليس هناك مرتد يمتحن يوم القيامة

قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. (البقرة 217)

قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. (النساء 115)

قال شيخ الاسلام ابن تيمية في بيان أن ثبوت اسم الردة والكفر على من (ينطق بالشهادتين) كثبوت الوعيد "التعذيب" في الاخرة بحقه:

(لا يلزم إذا كان القول كفراً، أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه) اهـ منهاج السنة 5/240

قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) صحيح البخاري

قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) صحيح البخاري

الشهادتين والصلاة وباقي اركان الإسلام والإيمان (توحـيد وايمان)


قال الإمام ابن بطة: (وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل به المرسلين، وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: إن الصلاة ليست من الإيمان والله عز وجل يقول: {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين}.)  الإبانة الكبرى 2/792

والتوحيد والإيمان يجتمع مع الشرك والكفر اذا وجد مانع من الموانع الشرعية كالإكراه والجهل والتأويل والخطأ

قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض المسلمين الواقعين في شرك القبور الأكبر جهلاً:

(يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه) مجموع الفتاوى 35 / 164 – 166


وقال: (وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى (12/ 500)

وقال: (فغالب الناس إسلامهم حكمي ... إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة كما هو الواقع في كثير من الناس) مجموع الفتاوى ج 26/ ص 32

فمن دخل الإسلام الحكمي بنطقه بالشهادتين فلا يخرج عنه ويسمى مرتدا الا بعد اقامة الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع.

قال الإمام الحافظ قوام السنة أبوالقاسم الأصبهاني: (ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر، لأنه لم يقصد اختيار الكفر ولا رضي به وقد بلغ جهده فلم يقع له غير ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداه} فكل من هداه الله عز وجل ودخل في عقد الإسلام فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان). الحجة في بيان المحجة (2/511)



قال الإمام اللالكائي -رحمه الله-:

(سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}. وقال تبارك وتعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين}. وقال تبارك وتعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد وقال تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب}. وقد استدل إبراهيم بأفعاله المحكمة المتقنة على وحدانيته بطلوع الشمس وغروبها، وظهور القمر وغيبته، وظهور الكواكب وأفولها، ثم قال: {لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين}، فعلم أن الهداية وقعت بالسمع. وكذلك وجوب معرفة الرسل بالسمع. قال الله تبارك وتعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}. وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. وقال تبارك وتعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. وقال تبارك وتعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين}. {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى}. فدل على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة). اهـ

[شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/ 216-220 ط دار طيبة]

قال الإمام السجزي -رحمه الله-:

(إقامة البرهان على أن الحجة القاطعة هي التي يرد بها السمع لا غير وأن العقل آلة للتمييز فحسب.

قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد}. فأمر جل جلاله نبيه عليه السلام أن يدعو إلى إثبات الوحدانية بالوحي وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} فبين أن من تقدم من الرسل كانوا يحتجون على الكفار في الوحدانية بالوحي ولم يؤمروا إلا بذلك. وقال جل جلاله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. وقال: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى}.

ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المحاجة بالعقل أحدا ولا أمر بذلك أمته.

وقال عمر وسهل بن حنيف: (اتهموا الرأي على الدين)

ولا مخالف لهما في الصحابة، وقد كانا يجتهدان في الفروع، فعلم أنهما أرادا بذلك المنع من الرجوع إلى العقل في المعتقدات.

ولا خلاف بين الفقهاء في أن الكفار والملحدين لا يجب أن يناظروا بالعقليات، وأن المسلمين قد أمروا بالأخذ بما آتاهم الرسول، والانتهاء عما نهاهم عنه، وحذروا من أن تصيبهم الفتنة أو العذاب الأليم في مخالفتهم أمره، قال الله سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقد كره عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جلالته الصلح يوم الحديبية، واستعظم رد المسلمين على الكفار، وكان ذلك من طريق العقل حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {تراني قد رضيت يا عمر وتأبى} فانتبه عند ذلك عمر وسكت علما منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفترض الطاعة، ولأنه لا ينطق عن الهوى، وأن الوحي لا يقابل بالعقل.

ولا خلاف بين المسلمين في أن كتاب الله لا يجوز رده بالعقل. بل العقل دل على وجوب قبوله والائتمام به، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ثبت عنه لا يجوز رده وأن الواجب رد كل ما خالفهما أو أحدهما.

واتفق السلف على أن معرفة الله من طريق العقل ممكنة غير واجبة، وأن الوجوب من طريق السمع لأن الوعيد مقترن بذلك قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فلما علمنا بوجود العقل قبل الإرسال، وأن العذاب مرتفع عن أهله، ووجدنا من خالف الرسل والنصوص مستحقا للعذاب بينا أن الحجة هي ما ورد به السمع لا غير.
وقد اتفقنا أيضا على أن رجلا لو قال: العقل ليس بحجة في نفسه وإنما يعرف به الحجة لم يكفر ولم يفسق، ولو قال رجل: كتاب الله سبحانه ليس بحجة علينا بنفسه، كان كافرا مباح الدم.

فتحققنا أن الحجة القاطعة هي التي يرد بها السمع لا غير.

ووجدنا أيضا القائلين بالعقل المجرد وأنه أول الحجج مختلفين فيه، كل واحد يزعم أن الحق معه وأن مخالفه قد أخطأ الطريق، ولا سبيل إلى من يحكم بينهم في الحال، وإنما الحاصل دوام الجدل المنهي عنه، ونجدهم أيضا يقولون اليوم قولا يزعمون أنه مقتضى العقل، ويرجعون عنه غدا إلى غيره، وما كان بهذه المثابة لا يجب أن يكون حجة في نفسه.

ووجدنا الكتاب المنزل غير جائز ورود النسخ عليه.

وقد وجب علينا الإذعان له، والدخول تحت حكمه، فكانت الحجة فيه لا في مجرد العقل.

وإنما ورد الكتاب بالتنبيه على العقل وفضله وبين أن من خالف الكتاب ممن لا يعقل لأن العقل يقتضي قبول العبد من مولاه، وترك ظنه له، ومصيره إلى طاعته ويحكم بقبح ما خالف ذلك.

وفي هذا القدر كفاية إن شاء الله تعالى.

على أن الأشعري يزعم أن العقل لا يقتضي حسنا ولا قبيحا. وهذا لعمري مخالفة العقل عيانا، وسيأتي بيان ذلك في غير هذا الفصل بمشيئة الله عز وجل.
وإذا ثبت ما قلناه زال شغبهم في أن العقل يقتضي ما يقولونه، لأنا لم نؤثر باتباع عقل يخالف السمع، وسنذكر كذبهم في اقتضاء العقل ما صاروا إليه بعد هذا إن شاء الله عز وجل.) اهـ. رسالة السجزي (ص 131-143)


آيات واحاديث تبطل زعم كل من قال أن العقل والفطرة حجة
وتنص على أن من دخل الإسلام الحكمي بنطقه بالشهادتين
لا يخرج عنه ويسمى مرتداً إلا بعد اقامة الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع

الآيات والاحاديث :

1- قال تعالى : {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} (النحل 87).

■ الآية السابقة نص على أن الأصل بالإنسان الجهل وأن العلم مكتسب.

2- قال تعالى : {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72)} (الزمر 71 ، 72).

■ الآية السابقة تنص على ان جميع من في النار اتاهم رسل منهم وتلي عليهم كلام الله عز وجل المنزل وكذبوه.

3- قال تعالى : {تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير (9)} (الملك 8،9)

■ الآية السابقة تنص ان جميع من في النار مكذب لكلام الله عز وجل المنزل على خلقه.

4- قال تعالى : {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} (النساء 65 ).

■ الآية السابقة نص على أن الحجة تكون بالرسل.

5- قال تعالى : {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} (محمد 25).

■ الآية السابقة نص على الوصف بالردة لابد فيه من تحقيق شرط (التبين) وهو تفصيل اقامة حجة وازالة شبهة.

6- قال تعالى : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (النساء 115).
7- قال تعالى : {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} (التوبة 115).
8- قال تعالى : {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم} (إبراهيم 4).

■ الايات الأربع السابقة تنص على أن البيان والتبين من اقامة الحجة وزالة الشبهة شرط للحكم بالردة على من دخل الاسلام الحكمي وشهد بالشهادتين.

9- قال تعالى : {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الاسراء 15).

10- قال تعالى : {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} (القصص 59).

■ الايتان السابقتان نص على [ الوعيد ] الدنيوي والاخروي لا ينزل على الاعيان الا بعد ارسال الرسل وتلاوة الآيات

11- قال تعالى : {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} (الأعراف 138).

قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في الآية السابقة:

(يظهر من جواب موسى عليه السلام أنه وإن أنكر عليهم جهلهم: لم يجعل طلبهم ارتداداً عن الدين، ويشهد لذلك أنهم لم يؤاخذوا هنا، كما أوخذوا به عند اتخاذهم العجل). مجموع رسائل المعلمي (1/142).

12- ويؤيد ما قرره العلامة المعلمي في فهم الاية السابقة، ما رواه الترمذي واحمد وغيرهم بسند صحيح عن أبي واقد الليثي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ سبحان الله هذا كما قال قوم موسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم.].


13- عن المغيرة بن شعبة، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين، مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة» متفق عليه

14- قال صلى الله عليه وسلم : [ إن رجلاً لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب وأنت أعلم فغفر الله له ]. متفق عليه

قال الإمام ابن قتيبة (ت 276 هـ) : (وهذا رجل مؤمن بالله، مقر به، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أحرق وذري في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته ما بنيته، وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته). اهـ

معلوم أن جهل صفة القدرة أوالشك بها شرك أكبر في الربوبية.

والشرك في الربوبية اظهر وأعظم من الشرك في الالوهية.

ومع هذا فإن الإمام ابن قتيبة -رحمه الله- يقرر أن من وقع في هذا جهلا أنه معذور.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

(فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره)  مجموع الفتاوى (11/409)

وقال: (والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة . ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة . وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: {إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ، ففعلوا به ذلك فقال الله له : ما حملك على ما فعلت. قال خشيتك : فغفر له}. فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك) مجموع الفتاوى (3/231)

 

وقال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-:

(و أما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان….) ثم استدل على ذلك بسؤال الصحابة -رضي الله عنهم- عن القدر ثم قال: (ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين،…. ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه) (التمهيد 18/46،47.).

وقال ابن حزم رحمه الله:

 بعدما ذكر الحديث: (فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله) (الفصل 3/252.).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (و أما من جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً) (مدارج السالكين 1/367.). 

ورد ائمة الاسلام على من تأول هذا الحديث وصرفه الى معاني غير صحيحه:

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي بمعنى قضي، أو بمعنى ضيق فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، و أنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مفراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، و لأن التقدير والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايراً، لأن يقدر الرب. قال: فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء) (مجموع الفتاوى 11/410، وانظر بقية الرد).

وقال ابن حزم:

 (… وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله عليّ إنما هو لئن ضيق الله علي كما قال تعالى: {و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيق علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله) (الفصل 3/252.)


أقوال أئمة ائمة السلف المتقدمين والمتأخرين في المعطلة لصفات الخالق -عز وجل- وفي بيان أنهم أظهر وأعظم شركاً من عبّاد الأوثان ومن اليهود والنصارى ثم تليها بعض أقوال الائمة المتقدمين في عذرهم بالجهل وعدم تكفير اعيانهم الا بعد اقامة الحجة :

قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: [ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْبَدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، يَقُولُ: " مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ يَعْبُدُ صَنَمًا ] (الإبانة الكبرى 6/36)

قال عبدالله بْنَ الْمُبَارَكِ وَمُوسَى بْنَ أَعْيَنَ: [ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ فَهُوَ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ هُرْمُزَ ] شرح أصول الإعتقاد للالكائي 2/28

قال الإمام البخاري: [ نَظَرْتُ فِي كَلاَمِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَضَلَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ  ] خلق أفعال العباد ص 30

قال أبو عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ: [ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ شَرٌّ مِمَّنْ قَالَ : {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}  جَلَّ اللَّهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ يُثْبِتُونَ شَيْئًا، وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ الْمَعْنَى ] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 2/291

قال الإمام الطبراني: [ من قال: إنه مخلوق، فهو شر من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان ] الحجة على تارك المحجة 2/484

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في بيان أن شرك المعطلة لصفات الخالق -عز وجل- اظهر واعظم من شرك الأوثان : (القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، ووصفه بضد ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، صلى الله عليه وسلم. فهذا أشد شيء مناقضة ومنافاة لكمال من له الخلق والأمر، وقدح في نفس الربوبية وخصائص الرب..

فإن المشرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله، كما أن من أقر لملك بالملك، ولم يجحد ملكه ولا الصفات التي استحق بها الملك، لكن جعل معه شريكا في بعض الأمور، يقربه إليه، خير ممن جحد صفات الملك وما يكون به ملكا، وهذا أمر مستقر في سائر الفطر والعقول.

فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها، من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد، يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟

فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له) الجواب الكافي ص 144 ط دار المعرفة

وقال رحمه الله : (فشرك عباد الأصنام والأوثان والكواكب والشمس والقمر خير من توحيد هؤلاء بكثير -يعني المعطلة للصفات- فإنه شرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات وتوحيد هؤلاء تعطيل الربوبية والإلهية وسائر صفاته وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشرك ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شركا ولا تجد معطلا نافيا إلا وفيه من الشرك بقدر ما فيه من التعطيل وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه فإن مضمون توحيد الجهمية إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة وإنكار وجهه الأعلى ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه وغضبه وضحكه وسائر ما أخبر به الرسول عنه ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول فيما أخبر به عن الله وجحده فاستعار له أصحابه اسم التوحيد وقالوا نحن الموحدون كما استعار المنكرون للقدر اسم العدل بجحده ودفعه وقالوا نحن أهل التوحيد والعدل فهذا توحيدهم وهذا عدلهم والعدل والتوحيد الذي جاء به الرسول خلاف هذا وهذا قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران 19، 18]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية 3/1112 ط دار العاصمة


- اقوال ائمة السلف الصالح في عذر هؤلاء الواقعين بالشرك الأكبر بالجهل وعدم تكفيرهم الا بعد اقامة الحجة:


- عذر الإمام أحمد بن حنبل للخليفة المعتصم لتأويله وجهله والبيعة والطاعة له والنهي عن الخروج عليه

قال الامام احمد عن الخليفة المعتصم -المعطل للصفات الواقع في الشرك الأكبر-:
(وكان لا يعلم ولا يعرف، ويظن أن القول قولهم، فيقول: يا أحمد إني عليك شفيق، فقلت: يا أمير المؤمنين هذا القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره، فما وضح من حجة صرت إليها. قال: فيتكلم هذا وهذا) الإبانة لابن بطة 6/253 ط دار الراية

وقال: (ثم جعل يقول لي: ما أعرفك! ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، أعرفه من ثلاثين سنة، يرى طاعتك والحج والجهاد معك، وهو ملازم لمنزله) المحنة لعبدالغني المقدسي (ص: 55)  ط دار الكتب العلمية / الاولى

وقال: (وقد جعلت أبا إسحاق "المعتصم" في حل ورأيت الله عز وجل يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قضية مسطح، ثم قال أبو عبد الله: العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك ولكن تعفو وتصفح عنه، فيغفر الله لك كما وعدك.) المحنة لعبدالغني المقدسي (ص: 92)  ط دار الكتب العلمية / الاولى

- عذر الإمام أحمد بن حنبل للخليفة الواثق لتأويله وجهله والبيعة والطاعة له والنهي عن الخروج عليه

قال الخلال في "السنة" (1/133-134): (90 - وأخبرني علي بن عيسى قال سمعت حنبل يقول: في ولاية الواثق اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبدالله أبو بكر بن عبيد وإبراهيم بن علي المطبخي وفضل بن عاصم فجاؤوا إلى أبي عبدالله فاستأذنت لهم فقالوا يا أبا عبدالله هذا الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك فقال لهم أبو عبدالله فما تريدون قالوا أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه فناظرهم أبو عبدالله ساعة وقال لهم عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ودار في ذلك كلام كثير لم أحفظه ومضوا ودخلت أنا وأبي على أبي عبدالله بعدما مضوا فقال أبي لأبي عبدالله نسأل الله السلامة لنا ولأمة محمد وما أحب لأحد أن يفعل هذا وقال أبي يا أبا عبدالله هذا عندك صواب قال لا هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر ثم ذكر أبو عبدالله قال قال النبي إن ضربك فاصبر وإن وإن فاصبر فأمر بالصبر قال عبدالله بن مسعود وذكر كلاما لم أحفظه)

- عذر الامام عبدالعزيز الكناني للخليفة المأمون لجهله والبيعة والطاعة له والنهي عن الخروج عليه

قال الامام الكناني :

(اتصل بي وأنا بمكة ما قد أظهره بشر بن غياث المريسي ببغداد من القول بخلق القرآن، ودعائه الناس إلى موافقته على قوله ومذهبه وتشبيهه على أمير المؤمنين المأمون وعامة الناس وما قد دفع الناس إليه من المحنة، والأخذ في الدخول في هذا الكفر والضلالة، ورهبة الناس وفزعهم من مناظرته، وإحجامهم عن الرد عليه بما يكسرون به قوله، ويدحضون به حجته ويبطلون به مذهبه، واستتار المؤمنين في بيوتهم وانقطاعهم عن الجمعات والجماعات، وهريهم من بلد إلى بلد، خوفا على أنفسهم وأديانهم، وكثرة موافقة الجهال والرعاع من الناس لبشر على مذهبه وكفره وضلالته، والدخول في بدعته، والانتحال لمذهبه، رغبة في الدنيا ورهبة من العقاب الذي كان يعاقب به من خالفه على مذهبه.) الحيدة والاعتذار ص 21 ط مكتبة العلوم والحكم.

وقال ايضا رحمه الله: (اجتمعت مع أمير المؤمنين بعد هذا المجلس فجرت بيني وبينه مناظرات كثيرة، فقال لي بعدما جرى بيننا: ويحك يا عبد العزيز، قل: القرآن مخلوق، فوالله لأوطأن الرجال عقبك، ولا نوهن باسمك، فإن لم تقل، فانظر ما ينزل بك مني، فقلت: يا أمير المؤمنين إن القلوب لا ترد بالرغبة ولا بالرهبة، ترغبني فتقول: قل حتى أفعل بك، وإن لم تفعل، انظر ماذا ينزل بك مني، فيميل إليك لساني ولا ينطق لك قلبي، فأكون قد نافقتك يا أمير المؤمنين. فقال: ويحك، فبماذا ترد القلوب؟ قال: قلت: بالبصائر يا أمير المؤمنين، بصرني من أين القرآن مخلوق؟. فقال لي: صدقت) الابانة لابن بطة 6/248 ط دار الراية

- الاجماع على اشتراط اقامة الحجة لتكفير اعيان الجهمية نقله الامام ابن ابي عاصم الشيباني (ت 287 هـ):

(ومما اتفق أهل العلم على أن نسبوه إلى السنة... -الى أن قال- والقرآن كلام الله تبارك وتعالى تكلم الله به ليس بمخلوق، ومن قال: مخلوق، ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه) كتاب السنة له 2/645 ط المكتب الاسلامي

- قال الامام البخاري (ت 256 هـ) عن اعيان المعطلة لصفات الخالق -عز وجل-: (وكل من لم يعرف الله بكلامه أنه غير مخلوق فإنه يعلم، ويرد جهله إلى الكتاب والسنة، فمن أبى بعد العلم به، كان معاندا، قال الله تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115] ، ولقوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: 115] ، فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام، والخوض والتنازع إلا فيما جاء فيه العلم، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم) خلق افعال العباد ص 62 ط دار المعارف

- قال الامام الدارمي في بيان أن اعيان المعطلة للصفات لا يكفّرون الا بعد اقامة الحجة عليهم من الكتاب والسنة:

(واحتججنا عليه -يعني احد رؤس المعطلة للصفات في مناظرته معه- بما تقوم به الحجة من الكتاب والسنة) النقض على المريسي (ص 226-227) ط المكتبة الاسلامية

مع التذكير أن الجهم بن صفوان مقتول عام 128 هـ وهؤلاء الائمة مولودون بعده باكثر من 50 عام على الاقل.

ولم يكونوا يعينون التكفير على اعيان المعطلة لصفات الخالق -عز وجل- وهم اظهر واشد شركا من عباد الاوثان الا بعد ثبوت قيام الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع.

وفي تقرير ذلك قال شيخ الاسلام ابن تيمية: (مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله؛ بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم؛ ويدعو لهم؛ ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة. وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر؛ وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان؛ فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين؛ وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة؛ وإن كانوا جهالا مبتدعين؛ وظلمة فاسقين.) مجموع الفتاوى 7/508


وقال: (التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. فإن الإمام أحمد -مثلا- قد باشر "الجهمية" الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك. فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه. ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب. ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره. ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل. فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار. أما الكتاب: فقوله سبحانه وتعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} وقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.) مجموع الفتاوى (12/419)

وقال عن القبوريين الواقعين في الشرك الأكبر في زمانه:

(بل كل من كان من المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة والمتفلسفة ومن وافقهم من الملوك والأغنياء؛ والكتاب؛ والحساب؛ والأطباء؛ وأهل الديوان والعامة: خارجا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله؛ ولا يحرم ما حرمه الله ورسوله؛ أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث الله به رسوله باطنا وظاهرا: مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه؛ أو ينصره أو يهديه؛ أو يغيثه؛ أو يعينه؛ أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له؛ أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلا مطلقا؛ أو مقيدا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى؛ أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك؛ ومنافقون إن لم يظهروه.

وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان فلقلة دعاة العلم والإيمان وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات: يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف: {يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة إلا الشيخ الكبير؛ والعجوز الكبيرة. ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار}. وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولا يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن "الإيمان" من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله؛ ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام؛ أو لنشوئه في بادية بعيدة أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا. والله أعلم.) مجموع الفتاوى 35 / 164 - 166

تأمل انه اثبت الايمان والاسلام للقبوريين الواقعين في الشرك الأكبر لجهلهم كما في النص السابق.

وقال: (وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى (12/ 500)

وقال: (لا يلزم إذا كان القول كفراً، أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه) اهـ منهاج السنة 5/240

بالجمع بين النصوص الثلاث السابقة يسقط منهج الخوارج

ففي النص الأول اثبت الاسلام والايمان لعباد القبور الجهال.

وفي النص الثاني اشترط لتكفير المسلم اقامة الحجة وازالة الشبهة.

وفي النص الثالث بين ان ثبوت الردة كثبوت العقوبة والوعيد في الاخرة.

وقال دفاعا عن القبوري أبوحامد الغزالي الذي مات ولم يتبرأ من كتبه الشركية واعتباره من علماء المسلمين.


تقريرا لإجماع السلف المقدمين والمتأخرين على العذر بالجهل والتأويل في الشرك الأكبر وللتفريق بين النوع والعين:

(وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب؛ بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد.) مجموع الفتاوى 35/103

وقال : (فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه) اهـ الاستغاثة والرد على البكري 411


وقال: (وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر، ومنهم من يسجد له، ومنهم من يسجد من باب المكان المبني على القبر، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس، فيسجدون لهذا الميت ولا يسجدون للخالق، وقد يكون ذلك الميت ممن يظن به الخير، وليس كذلك، كما يوجد مثل هذا في مصر، والشام، والعراق، وغير ذلك.

ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله، فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني، ونحو ذلك كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك من عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنها من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يعذرون بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر من لم يبعث إليه رسول، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين، قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وفي الحديث: «إِنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ».) كتاب قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 70)

وقال رحمه الله في بيان حال الرافضة في زمانه وانهم واقعون في الشرك الأكبر: (ويشبهون النصارى في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة وفي الشرك وغير ذلك) وقال: (وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه. فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التي اتخذت أوثانا من دون الله. وهذا باب يطول وصفه. وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به.) مجموع الفتاوى 28 /480-485

ثم بين انهم مسلمون وخير من الكفار الاصليين فقال: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمينمن الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير.) مجموع الفتاوى (13/ 96)


وعندما سئل رحمه الله عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة؟
أجاب:
(الحمد لله، كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير من كل من كفر به؛ وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفار كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام. والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافرا به؛ ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم.) مجموع الفتاوى (35/ 201)

وقال: (وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهموالصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع؛ لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعهفإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له. وقد بسطت هذه القاعدة في "قاعدة التكفير". ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ دون غيره. والله أعلم) مجموع الفتاوى 28/ 501

وسئل عمن يسأل اهل القبور قضاء الحاجات وتفريج الكربات فأجاب:

(هذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينته، وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه. وإما إذا كان جاهلا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولاسيما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة فإنه ضال باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر.) جامع المسائل 3/ 145-151

وقال  في مناظرته مع اعيان الحلولية القبورية وهم اشد واعظم الناس شركاً:

(ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم، أن لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.) الرد على البكري 253

في النص السابق شيخ الاسلام لم يحكم على الحلولية القبورية بالردة اثناء مناظرته لهم.


وقال: (أن القول قد يكون كفرا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة؛ ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر فيطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف من قال: القرآن مخلوق فهو كافر ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة) مجموع الفتاوى (7/619)

وقال: (أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية كما أنكر شريح قراءة من قرأ {بل عجبت ويسخرون} وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ {بل عجبت}. وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد ربه وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها: إنه مفتر على الله. وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي وفي تعذيب الميت ببكاء أهله وغير ذلك. وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال. مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعا مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأن المقاتل وإن كان باغيا فهو متأول والتأويل يمنع الفسوق. وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين. وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة "الوعيد " فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا فله كذا. فإن هذه مطلقة عامة. وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا: فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه: بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة.

والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "{إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت. قال خشيتك: فغفر له}". فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا.) مجموع الفتاوى (3/ 229 - 231)

وقال: (أن التكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه. وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه. ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك ويكون في الآخرة غير معذب مثل قتال البغاة والمتأولين مع بقائهم على العدالة ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك وعلى الغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له} " ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولا مع العلم بأنه باق على العدالة. بخلاف من لا تأويل له فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وكذلك نعلم أن خلقا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم. ومثل المنافقين المظهرين الإسلام فإنهم تجري عليهم أحكام الإسلام وهم في الآخرة كافرون كما دل عليه القرآن في آيات متعددة كقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} الآية. وقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} الآية. وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب. وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان كما قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} وقال تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} وهذا لأن المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} . وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس. ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي إلى البدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده في الدين سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر. وإذا عرف هذا فتكفير " المعين " من هؤلاء الجهال وأمثالهم - بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار - لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع " المعينين " مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.) مجموع الفتاوى 12/ 498-501

وقال: (أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه وقد يتوب من فعل المحرم وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يشفع فيه شفيع مطاع.

وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وجماهير أئمة الإسلام وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها. فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم وهو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال الأصول: هي المسائل القطعية قيل لا: كثير من مسائل العمل قطعية وكثير من مسائل العلم ليست قطعية وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه. وعند رجل لا تكون ظنية فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه أو لعدم ثبوته عنده أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: " {إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له} فهذا شك في قدرة الله. وفي المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك وغفر الله له. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع.

ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك ولم يفهموا غور قولهم فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقا حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي وربما رجحت التكفير والتخليد في النار وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة: ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة. لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم. حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وغير ذلك. ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لمن يبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بين له أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم. وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعي وأحمد في القدري: إن جحد علم الله كفر ولفظ بعضهم ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا. وسئل أحمد عن القدري: هل يكفر؟ فقال: إن جحد العلم كفر وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية. وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس كما يقتل المحارب. وإن لم يكن في نفس الأمر كفرا فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيها.) مجموع الفتاوى (23 / 345 - 350)


وقال: (التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية فتارة يدرك بيقين وتارة يدرك بظن غالب وتارة يتردد فيه ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل) بغية المرتاد ص 345 ط مكتبة العلوم والحكم


قال الإمام القيم:

(فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم فهؤلاء أقسام:

أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا.

القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته.

القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليدا وتعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية 1/255

قال الإمام محمد بن عبدالوهاب: (وإذا كنا: لا نكفر من عبد الصنم، الذي على قبر عبدالقادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }) الدرر السنية (1/ 102-104)، منهاج الحق والاتباع ص 56، الضياء الشارق 372

وقال: (وأما ما ذكر الأعداء عني، أني أُكَفِّر بالظن وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله.) الدرر السنية 10/113 باب حكم المرتد

وقال: (وإنما نكفّر من أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك) الدرر السنية 10/128 باب حكم المرتد

وقال في بيان التفريق بين النوع والعين والبراءة من التكفير بالعموم:

(ما ذكر لكم عني: أني أكفّر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء. وكذلك قولهم: إني أقول: من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده، أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضاً من البهتان. إنما المراد: اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت. ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعدما عرف أنها دين للمشركين وزينة للناس؛ فهذا الذي أكفّره. وكل عالم على وجه الأرض يكفّر هؤلاء، إلا رجلاً معانداً أو جاهلاً؛ والله أعلم.) الرسائل الشخصية ص 58، الدرر السنية 10/131 باب حكم المرتد

وقال: (وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك) الرسائل الشخصية (ص: 38)

وقال: (وقال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أنا من أعظم الناس نهيا، عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى" انتهى كلامه.
وهذا صفة كلامه في المسألة، في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وأما إذا بلغته الحجة حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة، من تكفير أو تفسيق أو معصية.) الدرر السنية 9/405


وقال: (ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان وأيضاً: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر.) الدرر السنية 1/102

وقال عن عباد القبور: (نحكم بأنهم مشركون ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية وما عدا هذا من الذنوب، التي هي دونه في المرتبة والمفسدة، لا نكفر بها.) الدرر السنية 1/522

وقال عمن نسب له تكفير بعض اعيان علماء القبورية كابن الفارض والبوصيري ممن لم تقم عليهم الحجة:

(سبحانك هذا بهتان عظيم) الدرر السنية 1/34

وقال : (وأما عبارة الشيخ -يعني شيخ الإسلام ابن تيمية- التي لبسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة.) الرسائل الشخصية 220، الدرر السنية 10/69 باب حكم المرتد

وقال: (وقال رحمه الله -يعني شيخ الاسلام ابن تيمية-، في موضع آخر: ونحن نعلم بالضرورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء والأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة في حال الشدة، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرهما، كما لم يشرع الله السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك؛ بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة، في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول) الدرر السنية 12/88

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب توضيحا لمنهج امام الدعوة وطلابه وبراءة من من القول بعدم العذر بالجهل والتأويل لمن وقع بالشرك الأكبر:

(فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم، في أن من قال: يا رسول الله، أسألك الشفاعة، أنه مشرك مهدر الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة، ولا سيما المتأخرين، لتصريح علمائهم المعتبرين أن ذلك مندوب، وشنوا الغارة على من خالف في ذلك! قلت: لا يلزم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، كما هو مقرر، ومثل ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو، كما ورد الحديث بذلك.

ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت، ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرا معاندا، كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات؛ وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله، ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون، لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعا، ومن شن الغارة فقط غلط، ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر، وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع، ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، سار فيهم نوره، فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.

فإن قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصرا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة؛ بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم.

هذا وقد رأى معاوية وأصحابه - رضي الله عنهم - منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتاله، ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعا، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وإن كانوا مخطئين، كما أن ذلك مشهور عند أهل السنة.

ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتآليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر، وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين.

هذا ما نحن عليه، مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال، لا إلى من قال، وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقا، أو غير حق، فقلد من قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]،
عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف، حتى يستقيم أوده، ويصح معوجه. وجنود التوحيد -بحمد الله- منصورة وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227]، و: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56]. وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، و {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47] ، و {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] .) الدرر السنية 1/ 234-236

وقال: (قد قدمنا الكلام على سؤال الميت والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه وبين التوسل به في الدعاء، وأن سؤال الميت والاستغاثة به في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية، على تحريمه وتكفير فاعله، والبراءة منه ومعاداته.

ولكن في أزمنة الفترات وغلبة الجهل، لا يكفر الشخص المعين بذلك، حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله؛ فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر، بخلاف من فعل ذلك جهالة منه، ولم ينبه على ذلك؛ فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه، فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر) الدرر السنية - باب حكم المرتد 10/274

وقال : (وتأمل أيضا قول الشيخ رحمه الله -يعني الامام محمد بن عبدالوهاب-، في آخر الكلام: ولا ريب أن أصل قول هؤلاء، هو الشرك الأكبر، والكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وأن ذلك يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين، كيف صرح بكفر من فعل هذا وردته عن الدين، إذا قامت عليه الحجة من الكتاب والسنة، ثم أصر على فعل ذلك؛ وهذا لا ينازع فيه من عرف دين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ والله أعلم.). اهـ الدرر السنية - باب حكم المرتد 10/236

وسئل عمن وقع منه الكفر جهلاً سواء كان قولا، أو فعلا، أو توسلاً هل يعذر ؟

فأجاب: (إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها.
فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وبقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه ".

فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم.) الدرر السنية 10 /239-240 باب حكم المرتد


رد العلامة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن على من لا يعذر بالجهل في الشرك الأكبر ويقول عن عباد القبور أنهم كفار اصليون وبيان أنه مبتدع

قال رحمه الله:

([الرد على المعترض في قوله عن الشيخ وجعل بلاد المسلمين كفارًا اصليين]
وأما قوله: (وجعل بلاد المسلمين كفارًا أصليين).
فهذا كذب وبهت، ما صدر ولا قيل، ولا أعرفه عن أحد من المسلمين فضلًا عن أهل العلم والدين؛ بل كلهم مجمعون على أن بلاد المسلمين لها حكم الإسلام في كل زمان ومكان.
وإنما تكلَّم الناس في بلاد المشركين، الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين، ويجعلونهم أندادًا لله ربِّ العالمين، أو يسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه عند أهل العلم: أن من فعل ذلك ممن يأتي بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردَّة ولم يجعلوه كافرًا أصليًّا، وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد المسمى: "بتطهير الاعتقاد" وعلَّل هذا القول: بأنهم لم يعرفوا ما دلَّت عليه كلمة الإخلاص، فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها، وشيخنا لا يوافقه على ذلك.
ولكن هذا المعترض لا يتحاشى من الكذب ولو كان من الميتة والموقوذة والمتردية، وما رأيت شيخ الإسلام أطلق على بلد من بلاد المنتسبين إلى الإسلام إنها بلد كفر، ولكنه قرر أن دعاء الصالحين وعبادتهم بالاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل، على أنهم وسائط بين العباد وبين الله في الحاجات والمهمات، هو دين المشركين وفعل الجاهلية الضالين من الأميين والكتابيين، فظنَّ هذا أن لازم قوله أنه يحكم على هذه البلاد أنها بلاد كفر، وهذا ليس بلازم، ولو لزم، فلازم المذهب ليس بمذهب، ونحن نطالب الناقل بتصحيح نقله.
نعم؛ ذكر الحنابلة وغيرهم أن البلدة التي تجرى عليها أحكام الكفر، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر؛ وما ظهر فيها هذا وهذا فقد أفتى فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه يراعى فيها الجانبان فلا تعطى حكم الإسلام من كل وجه، ولا حكم الكفر من كل وجه، كما نقله عنه ابن مفلح وغيره.
وقوله: (فلا تؤكل ذبائحهم عنده ولا تحل نساؤهم).
فهذا من نمط ما قبله، والشيخ لا يمنع من ذبيحة الشخص المعين إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ودخل في الإسلام، ما لم يأتِ بمانع يمنع من حل ذبحه، وكذا حكم النساء، فكيف يقول ذلك في أهل بلد وأهل قرية لا يعلم تفاصيل أحوالهم وما يجري منهم من النواقص إلا الله عالم الغيب والشهادة.
وأما القتال: فلم يقاتل إلا أصل الإسلام، والتزام مبانيه العظام، ومن نقل عنه أنه قاتل على غير ذلك فقد كذب وافترى، على أن بعض العلماء يرى القتال على ترك بعض الواجبات. فكيف بما أجمع عليه سلف الأئمة وأئمتها؟ .) مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام  ص 22-23 ط دار الهداية

وقال في بيان حال بعض خوارج عصره: (وقد رأيت سنة أربع وستين، رجلين من أشباهكم، المارقين، بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه، هو وأمثاله، ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده، الذي رد دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها.
قالا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت؛ ومن جالسه، فهو مثله؛ ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول؛ فزعموا أولا: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس.
وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا له، فيما يستحقه على خلقه، من العبادات، والإلهية، وهذا مجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك؛ وقد أفرد ابن حجر هذه المسألة، بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام.
وقد أظهر الفارسيان المذكوران، التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور.
وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب.
والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب، وفي غيره، لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم، بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن، قال: ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى:
فعليك بالتفصيل والتبيين فال ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطاال ... أذهان والآراء كل زمان
وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب الحرورية المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا: حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية، وعمرا، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [سورة الأنعام آية: 57] وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة، منذ أنزلت براءة.

وطال بينهما النّزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان، بعد الإعذار والإنذار، والتمس: "المخدج" المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال: " لو يعلم الذي يقاتلونهم، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل"، هذا: وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة، وصوما.) الدرر السنية (1/ 467)

قال العلامة سليمان بن سحمان:

(وأما التوسل الشركي فهم مجمعون على كفر فاعله، بعد قيام الحجة عليه) الضياء الشارق 564

وقال: (فإن النذر والذبح من خصائص الإلهية، فمن أشرك بالله أحداً من المخلوقين في خصائص الخالق فلا مانع من تكفيره بعد قيام الحجة عليه) الضياء الشارق 213

وقال: (ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة) الضياء الشارق 82


هناك تعليقان (2):