الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

شبهة الياسق والرد عليها وبيان كذب الخوارج


بسم الله الرحمن الرحيم

 يستدل الخوارج على تكفير من يحكم بغير ما انزل الله ويحكّم القوانين الوضعية بما قاله الإمام ابن كثير في التحاكم إلى الياسق في التفسير والتاريخ، قال في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم...وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله...كما يحكم بها التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جينكيزخان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو كتاب مجموع من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها الكثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل وكثير.) تفسير ابن كثير (2/68).

وقال في البداية والنهاية: (من ترك الشرع المحكّم المنّزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) (13/119).

ورد هذه الشبهة وبيان كذب وغش الخوارج من خلال الأمور الآتية:

1- أن جنكيزخان كان كافرا اصلياً ولم يكن مسلماً.

2- أن التتار كانوا يعتقدون أن جنكيزخان رسول وابن لله عز وجل -تعالى الله عما يقولون-.

3- ان التتار كانوا يعتقدون بشريعة الياسق أنها دين مساوي لدين الرسول صلى الله عليه وسلم.

4- أن المتحاكمين لشريعة الياسق أو الحاكمين بها يفضلونها على شرع الله المنزل على محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، أو يساوونه به أو ينسبونها لله تعالى.


فصل في بيان حال التتار وعقيدتهم في جنكيزخان وشريعة الياسق:

أ- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في بيان أن التتار كانوا يعتقدون أن جنكيزخان رسول: «وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنّه لهم، وشرعه بظنِّه وهواه، حتى يقولوا لما عندهم من المال: هذا رزق جنكسخان، ويشكرونه على أكلهم وشربهم، وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادي لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين» كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (28/522).

وقال أيضًا: «وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكسخان عظيمًا؛ فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح، ويقولون: إن الشمس حَبَّلَت أمه، وأنها كانت في خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حَبِلت، ومعلوم عند كل ذي دين أن هذا كذب، وهذا دليل على أنه ولد زنا، وأن أمه زنت فكتمت زناها، وادعت هذا حتى تدفع عنها معرة الزنا» السابق (28/521).

وقال أيضًا: « كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام، وهو يخاطب المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون، فقال: هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله: محمد وجنكستان، فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين؛ أن يسوي بين رسول الله وأكرم الخلق عليه، وسيد ولد آدم، وخاتم المرسلين، وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرًا وفسادًا وعدوانًا من جنس بختنصر وأمثاله» «مجموع الفتاوى» (28/521).

وقال في بيان حال التتار: «يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأنها كلها طرق إلى الله، بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثم منهم من يرجِّح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجِّح دين المسلمين» «مجموع الفتاوى» (28/523).

وقال أيضًا: «حتى إن وزيرهم هذا الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفًا مضمونه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رضي بدين اليهود والنصارى، وأنه لا ينكر عليهم، ولا يذمون، ولا ينهون عن دينهم، ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام» «مجموع الفتاوى» (28/523).

ب- وقال الذهبي في بيان اعتقاد التتار في جنكيزخان: «ودانت له قبائل المغول، ووضع له ياسة يتمسكون بها لا يخالفونها ألبتة، وتعبدوا بطاعته وتعظيمه» سير الأعلام (22/228).

ج- وقال السيوطي بيان اعتقاد التتار في جنكيزخان: «واستقل جنكيزخان ودانت له التتار وانقادت له، واعتقدوا فيه الألوهية» تاريخ الخلفاء (1/427).

د- وقال السبكي حاكيا عن جنكيزخان أنه: «أمر أولاده بجمع العساكر واختلى بنفسه في شاهق جبل مكشوف الرأس وافقا على رجليه لمدة ثلاثة أيام على ما يقال فزعم –عثره الله- أن الخطاب آتاه بأنك مظلوم واخرج تنتصر على عدوك وتملك الأرض برا وبحرا، وكان يقول: الأرض ملكي والله ملكني إياها» طبقات الشافعية (1/332، 333).

وقال أيضًا أن جنكيزخان كان كافراً اصلياً: «ولا زال أمره يعظم ويكبر، وكان من أعقل الناس وأخبرهم بالحروب ووضع لهم شرعا اخترعه ودينا ابتدعه -لعنه الله- "الياسا" لا يحكمون إلا به، وكان كافرا يعبد الشمس» الطبقات (1/329).

 فتبين من هذه النقول كافراصلياً وأنه كان يدعي أن رسول وأن التتار كانوا يعتقدون ذلك فيه.

 وقد وصف الحافظ ابن كثير ما صدر من كفر جنكيزخان فقال: «ذكر بعضهم: أنه كان يصعد الجبل ثم ينزل، ثم يصعد ثم ينزل مرارا حتى يعي ويقع مغشيا عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقى على لسانه حينئذ... فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها. وذكر الجويني أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال للعبادة فسمع قائلا يقول: إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض» البداية والنهاية (13/118).

 فهذه أوصاف التتر وأحوالهم، ولذلك نقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إجماع المسلمين على كفرهم وهو الحق المبين؛ فهذا الحكم خاص بملوك التتر، ومن كان مثلهم، وصنع صنيعهم.

 الأمر الخامس: وصف ابن كثير وغيره مما سبق ذكرهم أحكام الياسق بـ«الشرع» وفسره السبكي بقوله: «ووضع لهم شرعا اخترعه ودينا ابتدعه؛ دليل على استحلالهم لهذه الأحكام الجاهلية بجعلها دينا من عند الله، وهذا كفر» الطبقات (1/329).

 ويلاحظ في في هذا الوصف: التبديل والاختراع والتعبد، قال ابن العربي: «إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل يوجب الكفر» أحكام القرآن (2/624).

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والشرع المبدل: هو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين، فمن قال: إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع» مجموع الفتاوى (3/268).

 وقال الجصاص: «من حكم بغير ما أنزل الله ثم قال: إن هذا حكم الله فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك» أحكام القرآن للجصاص (4/93).

 فعلة الكفر التبديل والتقول على الله والكذب على الله ورسوله، وقد فعل جنكيزخان كل هذا.

 الأمر السادس: تكفير ابن كثير لهؤلاء المتحاكمين مشروط بتقديم شرعهم المخترع على شرع الله، قال الحافظ في ذلك: « فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر»، وكذا قال: « فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه».

 والتقديم هنا: يعني التفضيل، وهو عمل في القلب أي اعتقاد الأفضلية، فهذا يكفر صاحبه، ولا تعني كلمة التقديم هنا التقديم الظاهري بالحكم بغير حكم الله، وإلا للزم منه أن يكون الذي يحكم بغير حكم الله، ولو في قضية واحدة، مقدمًا لحكمه على حكم الله، فليزم دخوله في هذا الإجماع وتكفيره بذلك، وهذا باطل قطعا، ويؤيد ما قررت: أن ابن كثير ذكر التقديم في البداية والنهاية مقرونًا بالتحاكم إلى الياسق، فدل هذا على أن التحكام يختلف عن التقديم؛ إذ لو كان التقديم هو مجرد التحاكم لكان تكرارا ليس له معنى، قال ابن كثير: « فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه» ومنه الكفر يقع على المتحاكم الذي يقدم -أي يفضل- شرع الله على غيره وليس مجرد التحاكم فقط بل يشترط التفضيل الذي هو من الاستحلال الذي لا يكون إلا في الكفر الأصغر.

 وهنا نقف لكي نقرر على ما تقدم: بأن القانون الوضعي ليس بشرع، ولم يتعبد به الناس، وليس بمقدم على شرع الله في قلوب الحكام، وإن كان الحكم به واقع في بلادهم، إلا أن القياس الذي عقده الخوارج بقياس القانون الوضعي على الياسق قياس مع الفارق من جميع الوجوه.

 ويكون قياسًا صحيحًا لو أن القانون اعتبر شرعا بديلا لحكم الله ويحكم به بين الناس على أنه حكم الله، ويجعل دينًا مقدما ومفضلا على شريعة الله، هنا يكون القياس صحيحا، فمثل هذا الحاكم يكفر بما صنع واخترع، وبما اعتقد في قلبه واقتنع.

 فلقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن ترك الحكم بغير ما أنزل الله مع الإيمان بأصله ليس بكفر ولا شرك مخرج من الملة، وإنما كبيرة:

 قال الإمام السمعاني: «واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية، ويقولون: من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم» تفسير السمعاني (2/42).

 وقد تكلمنا عن مفهوم الخوارج في هذه الآية ورددناه في موضعه عند الكلام على قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وقد رجحنا هناك أن ترك الحكم بذلك ليس شرك بالإتفاق، وأصل الإيمان موجود لم ينتف، فيجوز للحاكم أن يرجع بالتوبة، ويغفر الله له ما كان.

 فعلى ما في مذهب أهل السنة وما تقرر فيه وما اتفقوا عليه من أن الحاكم لا يكفر بترك الحكم، وعليه يفهم كلام ابن كثير، فإن الخوارج يرددون كلامه ولا يعلمون أن العلامة ابن كثير يعتمد على ما تقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة، فحدثنا عن الياسق ويعلم أن من ورائه سيفهم أنه لا يقاس عليه ترك الحكم كما عند أهل السنة، إلا إذا صنع الحاكم مثل ما صنع جنكيز خان من التبديل والتحريف والكذب والاختراع، وجعله دينا للناس وتفضيله على دين الله، فهذا لا شك سيكفر بذلك لأنه استحل ذلك، كما هو معلوم، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.

 الأمر السابع: لقد أوضح العلماء حكم العمل بالقوانين الوضعية استحلالا او تفضيلا او مساواتا، فقال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (وإنما يحرُم إذا كان المستند إلى الشريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهوائهم، وكذلك البادية وعادتهم الجارية... فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها؛ فهو كافر، قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ... وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا: كفر دون الكفر الأكبر؛ لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة) منهاج التأسيس (ص 71).

 وقال العلامة سليمان بن سمحان شارحًا ذلك: (يعني أن استحل الحكم بغير ما أنزل الله ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هو عليه من السوالف والعادات هو الحق، فمن اعتقد هذا فهو كافر، وأما من لم يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر ولا يخرج من الإسلام) مجموعة الرسائل (3/309).

 وخاتمة القول في مسألة قياس القوانين الوضعية على الياسق، فأقول: اعتمادًا على ما اتفق عليه أهل العلم سلفا وخلفًا فإن تبين أن جنكيزخان ادعى انه رسول واخترع دينًا ونسبه إلى الله تعالى وزعم أنه من وحيه وقد اختار لنفسه الشمس يعبدها ليتقرب إلى الله، وطلب من رعيته أن يتقربوا إلى الله بما شاؤوا، ثم إنهم كانوا يعتقدون فيه النبوة وانه ابن لله عز وجل، وأن شرعه وحي من الله ففضلوه على الكتاب والسنة، واعتبروه خيرا من الإسلام كما صرحوا بذلك، ويعلم منه أنه لا علاقة لهذه الأمور الكفرية بالقوانين الوضعية الموجودة الآن فالقياس باطل كاذب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق